2020 إنموذجاً
السيكولوجيا..شرط نجاح الدراما التلفزيونية
قاسم حسين صالح
تعريف
عرض في رمضان هذا العام مسلسل2020 تأليف بلال شحادات ونادين جابر،واخراج فيليب اسمر،وتمثيل: نادين نسيب نجيم، قصي خولي، كارمن لبّس، فادي إبراهيم، حسين مقدم، رولا بقسماتي، رندة كعدي، فؤاد شرف الدين، وسام صليبا، جنيد زين الدين، ماريتا الحلاني، وآخرون..وهو انتاج سوري – لبناني مشترك تكفلته شركة (الصباح أخوان)،وعرض على شاشة “أم تي في” اللبنانية و”أم بي سي” ومنصة “شاهد” VIP .
مضمون المسلسل
يتناول المسلسل قضية اجتماعية بوليسية حملت ملفا بعنوان 2020 وتدور أحداثه حول العدالة والحب،جسّد محورها الرئيس الممثلة نادين نسيب نجيم ( سما) التي لعبت دور نقيب في قوى الأمن الداخلي،وقررت إكمال مسيرة شقيقها الذي قُتل على أيدي عصابة تتاجر بالمخدرات،فيما لعب الممثل قصي خولي (صافي)الديب دورالعقل الذكي المدبّرلعصابة تقوم بتعبئة المخدرات بالخضار في سرداب تحت سوق للخضار يديره بتعامل لطيف مع الزبائن،هو و( ساره) و(بلبل) بهدف كسب ودّهم لتغطية ما يجري تحته من تعبئة للمخدرات تقوم بها فتيات قاصرات..وتدخل (سما) عالم (صافي) الداخلي والأسري للأيقاع به وتقديمه للعدالة،وتنجح في ايقاعه بغرامها،ويزداد لحظة رؤيته لها من غير حجاب..وتتورط في وقوعها بحب من جاءت لتنتقم منه!
وامتاز المسلسل،بصناعة درامية ليس فيها فائض معنى،لمحتوى فكري ما كان تقليديا مع ان موضوع المخدرات مكرر في الدراما العربية،لكنه اعطاها بعدا اجتماعيا للطبقة المسحوقة بالتقاطه فتيات قاصرات لا يجدن قوت يومهن وضعهن امام ثلاث خيارات:اما السقوط في عالم الدعارة،او الضياع في المجهول،او تعبئة المخدرات في مكان يوفر لهن السكن والطعام وألأمان. ومن مفارقاته انه قدم تاجر المخدرات( قصي) بشخصية تولّد لدى المشاهد حكم النقيضين: الأعجاب به بوصفه مثالا للشهامة والنخوة ومساعدة الفقراء ومخافة الله بترديده عبارة (ياعفو الله)..والأدانة،بوصفه يدس السموم للناس في الخضار من اجل المال،في حارة بيروتية شعبية تمثل الفئات المسحوقة والفقيرة في البلدان العربية.
وتفرّد هذا العمل النوعي بتأمين اهم اربعة عوامل في الدراما التلفزيونية: جودة الحوار والسيناريو،والاخراج،واداء الممثلين،وضخامة الانتاج..ليحتل موقع الصدارة ضمن افضل ثلاث مسلسلات في رمضان 2021 بلغت معدلات مشاهداته مئات الملاييين.
لماذا الشرط السيكولوجي
الدراما..فن مسرحي او تلفزيوني تتناول موضوعاتها صراعا بين قيم او مواقف متضادة( خير وشر،حب وكره، وفاء وخيانة، حاكم ومحكوم..) يشدّ المتلقي اليه فيتابعه لأنه يثير بمركز الأنفعالات في الدماغ مشاعر الحب،الكره،التعاطف،الأستمتاع..والتواصل الى أن يرى النهاية التي تكون غامضة في مسار الأحداث. وحديثا تعني الدراما ادب المفارقات الذي تكون فيه المقدمات تخالف النهايات،بشكل تجعل المتلقي في حيرة تدفعه لمتابعة تسلسل الاحداث فتحدث المفارقة التي تدهشه.
وتتمثل عناصر الدراما بالفكرة الرئيسة،وحبكة الصراع ولغة الحوار،وتصاعد الاحداث،ثم الذروة فالنهاية او الحل،وكفاءة ابطال العمل من الممثلين،فضلا عن الموسيقى التي تزيد الاثارة والتشويق وفضول الترقب وقلق التوقع.
لغتا الجسد والعيون
كثيرون لا يعرفون ان حصة الكلام (اللغة اللفظية) في احاديثنا التقليدية تشكّل بحدود 45 بالمئة فيما تكون حصة لغة الجسد من التواصل بحدود 55 بالمئة !اي ان اقل من نصف المعنى يأتي عبر لغة الكلام،فيما يأتي اكثر من النصف من لغة الجسد،تصل لجهاز او مركز في الدماغ خاص بفك الشفرات ،فأن فسّرها بشكل صح،حصل تفاهم وتودد..وربما الوقوع في الحب!،وان فسّرها بشكل خطأ،ادى ذلك الى نفور او خصومة..وهذا هو الشرط السيكولوجي لنجاح الدراما التلفزيونية،ما يعني أن على العاملين في الدراما التلفزيونية ان يمتلكوا ثقافة جديدة بالسلوك غير المنطوق (لغة الجسد) لانها هي التي تزود الممثلين بأفضل المفاتيح لمعرفة المشاعر الداخلية للشخصية التي يجسدها،وما اذا كانت اللغتان (اللفظية وغير اللفظية) متطابقتين بالمعنى،او ان احداهما تحمل معنى يناقض ما تحمله اللغة الاخرى،فيكون المشاهد في حيره..ايهما يصدق:كلامه ام لغة جسده؟.
وعن لغة العيون،فنحن نعرف ان العين تعطي اشارات الاتصالات البشرية الاكثر كشفا ودقة وصدقا.ففي الحب، العين هي التي تتكلم قبل اللسان،وفي اشعار الغزل والاغاني،العين هي موضوع الحب ورسول الغرام حين تتعطل لغة الكلام. لكن ما لا نعرفه هو ان بؤبؤي العينين يتمددان ويتقلصان تبعا لتغير المزاج واليهما يرجع التأثير الذي يحدثه فيك عدوك او حبيبك!. فلحظة يستثار الشخص عاطفيا فأن بؤبؤي (انساني) عينيه يتمددان الى اربعة اضعاف حجمهما العادي.فالعشاق يتطلعون عميقا في عيون بعضهم البعض،ولك أن تتذكر أيام شبابك كيف كنت لا تمل من النظر في عينيها!.ولهذا تعمد الاماكن التي يرتادها العشاق ان تكون مضاءه بالشموع،والسبب لا يخص رومانسية الشمعة وحدها،بل لأن الضوء الخافت يساعد على تمدد بؤبؤ العين فتغدو واسعة برّاقة جذابة.أما حين يتعكر مزاجك أو تغضب فان البؤبؤين يتقلصان فتبدو العينان صغيرتان كعيني حيّه..وهذا ما تغفله الكثير من مشاهد الحب في الدراما التلفزيونية العربية..لأن المخرجين ما كانوا قد تلقوا هذه المعلومات في تحصيلهم الأكاديمي،أو انهم يتجاهلونها،ولا يعرفون ان الدراسات توصلت الى ان الشخص حين يكون غير صادق او انه يكتم معلومات،فأن عينيه تلتقي عينينا اقل من ثلث الوقت،وأنه حين تلتقي عينا شخص بعينيك اكثر من ثلثي الوقت فهذا يعني واحدا من أمرين:اما انه يجدك شيقا جدا او مغريا وجذابا..وفي هذه الحالة تكون النظرة المحدّقة مصحوبة بتمدد بؤبؤي العينين،أو انه عدائي اتجاهك..وفي هذه الحالة يتقلص البؤبؤان.
لقد توسعنا قليلا في تحليل لغتي الجسد والعيون سيكولوجيا لنصل الى هدفنا في التدليل على أن السيكولوجيا هي الشرط في نجاح الدراما التلفزيونية،وأن سبب فشل الكثير من المسلسلات الدرامية التلفزيونية العربية،هي افتقار المخرج والممثلين لهذا الفهم السيكولوجي فتكون النتجة ان المشاهد يرى الممثل..يمثل ولا يعيش الفعل سيكولوجيا..وهذا ما استطاع مسلسل 2020 أن يتخطاه ليشكل انموذجا في توظيف السيكولوجيا.
لقد تابعت أداء نادين وقصي بعين السيكولوجست،لا بعين المشاهد،فوجدت أن كليهما كان موفقا في توظيف لغتي الجسد والعين،بالمعاني التي ذكرناها،في تجسيد انفعالات الحب،ونقيضها الصعب..الأنتقام من المحبوب!.ومع ان هذا يعود الى امتلاكهما موهبة متميزة وقدرة عالية في التمثيل،وانسجام نفسي بينهما يعود الى مشاركتهما بمسلسل (خمسه ونص- 2019 ) فان الدور الرئيس يعود الى المخرج فيليب أسمر،الذي فاجأني بأنه في الثلاثينات من عمره ويمتلك موهبة استثنائية في الأخراج وثقافة سيكولوجية في فن التمثيل،اجاد توظيفها بالمشهد في حلقة 24 الذي يلتقي فيه قصي بنادين.فمع أن طول المشهد بحدود ثلاث دقائق..لكن تصويره استغرق ساعات..ما يعني ان المخرج اوصل نادين وقصي الى الحالة التي يتجسد فيها الصدق السيكولوجي..ليثير لدى المشاهد انفعالات التعاطف والتأثر..في حالة تنسيه أنه يعيش مشهد تمثيل!. وفي رأيي ان هذا المشهد،تحديدا،ينبغي ان يعتمد في تدريس مادة سيكولوجيا الدراما في اقسام المسرح والتلفزيون بالجامعات العربية.
تهنئة من سيكولوجست متخصص بتدريس سيكولوجيا الأبداع في الفن..لمؤلفي العمل،بلال شحادات ونادين جابر،والمخرج فيليب اسمر،والرائعين نادين وقصي،و لكارمن لبس(رسمية)،وفادي ابو سمرة(سلطان) الذي نجح في جعل المشاهد يكرهه لتجسيده لغتي الجسد والعين للوضيع والمنبوذ اجتماعيا. وتحية للمثلين الآخرين وطاقم العمل،ولشركة الانتاج (صباح أخوان)..التي نتوسم فيها بانتاج عمل جديد توظف السيكولوجيا لتحدث بها انعطافة علمية تؤمن شرط نجاح الدراما التلفزيونية العربية.
{ مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية