الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الزيّات صاحب الرسالة في أشد البلدان حرارة

بواسطة azzaman

الزيّات صاحب الرسالة في أشد البلدان حرارة

  حسن محمد صالح

يعرف عن العراق تباين درجات الحرارة فيه، فالمواطن في رحلة الشتاء والصيف يعاني الأمرين، وبين حله وترحاله بين الفصلين المتضاربين، يرى المواطن قصصا وحكايات عجيبة وغريبة يمكن أن نسميها حكايات ألف ليلة وليلة العراقية واعتذاري الشديد من عشاق ألف ليلة وليلة . ففي ايام الشتاء التي تتسم بموجات البرد القارس وهطول الأمطار الغزيرة،  يشعر المواطن بان الدم قد تجمد قي عروقه ، وشلت حركته، وقلت حيلته.   أما بالنسبة للصيف، فالأمر أدهى وأمر، حيث تصل درجات الحرارة إلى مستويات عالية تجعل المواطن يفكر بالنفاذ بجلده ، و لو كان ممكنا لأقحم جهاز تبريد في جسده أو لمكث في داخل براد أو ثلاجة لأيام عديدة بل لأشهر مديدة.  ومما يزيد الطين بلة، تردي أحوال منظومة الكهرباء وغياب الحلول الجذرية لحل هذه المشكلة المستديمة منذ زمن طويل؛  فالفاسدون لا يستهويهم استقرار احوال البلاد والعباد، فهم يعتاشون كخفافيش الظلام على معاناة الشعب، ومكابداته اللامتناهية.

أحمد حسن الزيات 1885-1968 كاتب ومفكر مصري ذائع الصيت، مستوقد الذهن وثاقب الرؤية، يمتاز بأسلوبه السردي الآخاذ .يشتهر بكثرة رحلاته الى مختلف البلدان مدونا ما راه ولمسه في زياراته وجولاته. ويجدر بالإشارة إلى أن الزيات أقام  ردحا من الزمن في العراق وفي بغداد الحبيبة على وجه التحديد عندما عمل أستاذا للأدب في دار المعلمين العالية بين عامي 1929-1933 ودون في كتابه الرائع وحي الرسالة ملاحظاته وآرائه عن فصل الصيف القائض في بغداد . ففي مقالين رائعين من ذكريات الصيف في بغداد و كيف كان العراقيون يتقون الحر؟ . يسرد  لنا الزيات تجاربه هناك، وانطباعات أهالي بغداد عما يواجهونه من شدة الصيف اللاهب ؛ فأهل مكة أدرى بشعابها. يذكر الزيات في مقاله الأول أنه قرأ لأحد الكتاب العراقيين واصفا حر العراق بأنه “حر لا يطيب معه عيش، ولا ينفع فيه ثلج ولا خيش . فهو كقلب المهجور أو كالتنور المسجور”  ص 156. ويمضي الزيات قائلا انه يعجز عن وصف شدة الحر الذي ذاق لفحاته المذيبة  مستشهدا بقول الشاعر:

في زمان يشوى الوجوه بحر

          ويذيب الجسوم لو كن صخرا

لا تطير النسور فيه إذا ما

              وقفت شمسه وقارب ظهرا

ويود الغصن النضير به لو

                أنه من   لحائه    يتعرى

اجواء حارة

يفصل الزيات في كثيرمن الأمور المتعلقة بأجواء الحر، ويتوقف عند حقيقة بلوغ درجة الحرارة 50 درجة مئوية ، وهو أمر يجعل العيش مريرا ؛ فالبيت ينقلب إلى جحيم  لا يطاق . وفي هذا يقول الزيات،” وانقلب البيت فرنا من غير وقود، والهواء لهبا من غير دخان: وحينئذ تحس كأن روحا نارية تمتد إلى وجهك فتحرقه، وإلى نفسك فتزهقه، وإلى صدرك فتضيقه “ص157 . مع ذلك، ما يخفف وطأة شدة الحر في نهار بغداد في نفس الزيات  هو جمال لياليها الخلاب، وشطآنها العذبة الجالبة للبهجة والسرور، وما يرافقها من مسامرة وفن وغناء.

سرد تاريخي

وفي مقاله الثاني يقدم الزيات سردا تاريخيا عن وسائل اهل العراق في اتقاء شدة حرارة الصيف ، وبرودة شتاء العراق القارس، مبينا أن اهل العراق لديهم طرقا وحيل لتفادي برودة الأجواء ولكن الأمر يختلف تماما في فصل الصيف: “… الحر تعس عليهم اتقاؤه أن خففوا عنهم شدته بوسائل دلت عليها الطبيعة وهدت اليها التجربة كاتخاذ الملابس من الكتان والقطن، واختيار الابيض من الجلابيب والعمائم، ورش الأرض بالماء،  وتحريك الهواء بالترويح  ، وتبريد الجسم بالاستحمام “ص161.  كان هذا حال أهل العراق قبل اكتشاف الكهرباء. فماذا تغير الآن؟ يبدو أن لسان حالنا يقول ما أشبه اليوم بالبارحة.

ما يجري هذه الأيام من احتجاجات شعبية عارمة تجتاح عدد من المحافظات العراقية هو دليل قاطع على نفاذ صبر الشعب وامتعاضه الشديد جراء استمرار تردي منظومة الكهرباء في البلد، مما انعكس سلبا على كثير من تفاصيل حياته. وما هذه الاحتجاجات إلا رسالة واضحة إلى الحكومة تفيد بضرورة إيجاد حلول آنية عاجلة لحل  هذه المشكلة المستمرة.

تخيل معي- أيها القارئ الكريم –  لو أنه قدر للزيات ان يعيش الآن في العراق وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة وتردي الكهرباء، فما هو بفاعل؟ أظنه لغادر البلد وشرع بتأليف كتاب أسماه حذار  من الإقامة في اشد البلدان حرارة!

ملحوظة: مصدر الاقتباسات في هذا المقال: وحي الرسالة : فصول في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع والقصص ، أحمد حسن الزيات، دار الثقافة، لبنان بيروت, ط 3  1973 المجلد الرابع

{ أكاديمي ومترجم


مشاهدات 435
أضيف 2020/08/05 - 10:33 PM
آخر تحديث 2024/07/16 - 12:47 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 169 الشهر 8158 الكلي 9370230
الوقت الآن
الجمعة 2024/7/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير