الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قيس الزبيدي.. حين تكون الحياة شاشة سينما

بواسطة azzaman

الإسهام في بناء السينما الوثائقية والتسجيلية على نحو مبتكر وجديد

قيس الزبيدي.. حين تكون الحياة شاشة سينما

عبد الحسين شعبان

رحل قيس الزبيدي، أحد أبرز روّاد السينما الوثائقية الفلسطينية والعربية، والباحث المبدع في نظرية الفن السابع في برلين (الأول من كانون الأول / ديسمبر 2024)، عن عمر يقارب التسعين عامًا، فقد ولد في بغداد في العام 1935.

 وكان آخر اتّصال بيننا، حين زرت برلين لإلقاء محاضرة عن الشاعر الكبير مظفر النواب الموسومة «مظفر النواب - من وحي الأمسية البرلينيّة» في «منتدى بغداد للثقافة والفنون»، حيث هاتفني معتذرًا عن حضور الأمسية التي أُقيمت لي، بسبب تدهور وضعه الصحي، فاكتفينا بالمحادثات الهاتفية، وعدت وهاتفته للاستفسار عن أخبار صديقنا الكاتب والمترجم يحيى علوان، التي انقطعت عني لنحو شهر كامل، فعرفت منه أنه دخل المستشفى، وذلك قبل بضعة أشهر على رحيله (2024)، وكان علوان قد سبقه للقاء الرفيق الأعلى.

 وكان صديقنا الوفي عصام الياسري، رئيس منتدى بغداد، يأمل في نشر كتاب عن قيس الزبيدي، وطلب منه تدوين أسماء بعض الشخصيات التي يريدها أن تساهم في الكتاب، وكان اسمي من ضمنها، وهو ما كنت أنوي الكتابة عنه في «أنطولوجيا المثقفين العراقيين».

عشق الشام

 تعرّفت على قيس العام 1980 في الشام، التي أَحبها وأخلص لها، وهو ما كنت أشاطره فيه، وحين نشرت مقالة بعنوان « علّمتني الشام حبّ الصباح» (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، هاتفني ممازحًا: يبدو أننا نتنافس على حب هذه المعشوقة.

 خلال وجودي في الشام وترددي عليها لاحقًا، جمعتنا لقاءات وأماسي وعمل مشترك في إطار «رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين»، التي كان يترأسها الشاعر الكبير سعدي يوسف. كما التقيته في برلين عدة مرات في التسعينيات بأنشطة وفاعليات مختلفة.

  وكنت أتابع منجزه الفني الخصب والشديد الثراء خلال السنوات الأخيرة، وتأكدت أنني أمام فنان كبير عاشق للسينما، بل أن السينما تشكّل إحدى هويّاته بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وخصوصية ومفردات وتميّز، بما له علاقة بالواقع والمتخيّل، وازدادت قناعتي تلك حين شاهدت بعض أفلامه التي امتازت بالجرأة والتجديد، متجاوزة الروتين السينمائي التقليدي، متّجهة إلى أفق رحب، حيث كان يسعى لتطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي، وهو ما برع فيه على نحو باهر.

الأخوّة الإنسانية

كانت الحريّة وفلسطين والأخوّة الإنسانية، ثلاث أركان في مشروعه الفني الجمالي الإنساني، وتلك كانت خياراته التي لم يحد عنها منذ أن بدأ مشواره الإبداعي في أواخر الستينيات، وذلك بعد تخرّجه من معهد الفيلم العالي في بابلسبيرغ (ألمانيا)، حيث نال درجة الدبلوم في المونتاج (1964)، ثم حصل على دبلوم في التصوير (1969). ومنذ نشأته الأولى، وقبل أن يغادر إلى ألمانيا الديمقراطية (1961)، قد تأثر بالفن بعد أن تعرّف بواسطة خاله الشيوعي على الفنان يوسف العاني والمخرج سامي عبد الحميد والمخرج محمد شكري جميل، الذي كان له الفضل في بدء خطواته الأولى في المونتاج السينمائي، كما أخبرني في الشام، وكان قد أُغرم بالسينما وعشقها لدرجة التولّه، حيث أكثر من مشاهدة الأفلام السينمائية ومتابعة كل ما يتعلّق بها، ابتداءً من أفلام تشارلي شابلن وصولًا إلى أفلام فيليني وبازوليني والسينما الإيطالية عمومًا والمخرج البولوني أندريه فايدا

لم تكن القضية الفلسطينية مركزًا لعمله الفني فحسب، بل كانت مركزًا لحياته، فهو بقدر عراقيته الأصيلة، إلّا أنه لم ينتج سوى عملًا عراقيًا وحيدًا عن العراق، هو للفنان التشكيلي جبر علوان، والتي أسماها «جبر ألوان»، في حين أنه أخرج نحو 20 فيلمًا طويلًا وقصيرًا وتسجيليًا، غالبيتها عن فلسطين، كما ساهم في تأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي الألماني في برلين.

يُصاب المرء أحيانًا بالدهشة لدرجة الشك، خصوصًا لمن لا يعرفه ويتساءل مع نفسه، هل يا تُرى أن قيسًا هو عراقي أم فلسطيني أم سوري أم لبناني أم تونسي؟ ولكن سرعان ما يُدرك سرّ هويّته العربية الجامعة، فهو كل ذلك، بل إن هويّته أبعد من ذلك، فهي هوية كونية، فقيس الزبيدي مثقّف كوني تجاوز الانغلاق وانفتح على العالم ومدارسه الفنية، وهكذا كان ألمانيًا بقدر عروبته، لأنه إنسان قبل كلّ شيء، آمن بالأخوة الإنسانية بين البشر.

ويروي الصديق المخرج السوري محمد ملص، الذي يشاطر الزبيدي في انحيازه الإنساني لفلسطين في كتابه «قيس الزبيدي.. الحياة قصاصات على الجدار»، معرفته بالزبيدي، مشيدًا بدوره فيقول: « لمعت في ستينيات القرن المنصرم أسماء لا نعرف عنها الكثير، جيل كامل ممن حملوا وأنتجوا وناضلوا، كل بطريقته... منهم من حمل البندقية ومنهم من لوّح بقلم ومنهم من حاول التحريض على الواقع عبر توثيقه على شاشة»، ومن بين هؤلاء قيس الزبيدي. وفي حوار جمعني في جلسة في الشام الحبيبة مع المخرج أميرلاي والرسامة منى الأتاسي ومظفر النواب وصادق جلال العظم وحميد مرعي وأبية حمزة وممدوح عدوان وإلهام عدوان في منزل الصديقة رولا ركبي، حيث أجمع الكل على القول: نحن السوريون والعراقيون لا نشعر بأننا ننتمي إلى فلسطين تاريخًا وفنًا وجمالًا فحسب، بل أننا فلسطينيون، فكل ما فينا من أحداث وحيوات وأيام وأحلام وأوهام، هو فلسطيني بامتياز.

 ولعلّ من يشاهد فيلم «واهب الحريّة» (1987) والذي كان فيه قيس ينتقل من البقاع الغربي إلى الجنوب اللبناني، وتحديدًا إلى صيدا، التي شهدت أعمال مقاومة بطولية بين العام 1982 - 1985، قبل اضطرار القوّات الإسرائيلية الانسحاب من لبنان في العام 2000، يدرك أن قيسًا فلسطيني بامتياز وهو إنسان قبل كلّ شيء، وهو ما يلاحظه كل من عرف قيس، وربما أكثر مني، وذلك أيضًا ما أخبرني به المخرج هيثم حقّي، الذي اعتقد أن قيس هو فلسطيني وليس عراقيًا في بداية تعرفه عليه. واستعدت هذا الحوار في الأيام الأخيرة عشية رحيله، وقلت مع نفسي ربما يكون قيس مستغرقًا في هذه اللحظات وعينه على الشاشة الزرقاء يتابع أخبار فلسطين، وما تعرّضت له صيدا وعموم الجنوب اللبناني من قصف إسرائيلي همجي، إضافة إلى حرب الإبادة في غزّة، منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، على الرغم من الأمراض اللئيمة التي هجمت عليه في منفاه الموحش.

السردية الفلسطينية

انشغل الزبيدي بتوثيق الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني خصوصًا والعربي عمومًا، وكأنه يريد الرد على الرواية الصهيونية، التي حاولت تشويه الوقائع وتزييف الحقائق، لأنه يعتبر الوثيقة مثل الصورة، خبر، ولعلّ الوثيقة والصورة تغنيان عن آلاف المقالات والدفوعات والمرافعات أحيانًا، بما تقدمه من مواد مقنعة وحيوية ودامغة، وبذلك حاول الجمع بين اللغة الأكاديمية، التي تستخدم الوثيقة، ببعدها القانوني والتاريخي، مع اللغة الفنية السينمائية، التي تستخدم الصورة مادة للإدانة والدفاع عن الحق، مسلطًا الضوء على معاناة الفلسطينيين، عبر الوثائق المادية والرؤية البصرية، وليس عبر الشعارات السياسية.

وكان قيس يؤمن أن السينما هي وسيلة لإظهار الحقائق وإيصال صوت الحق إلى العالم، ناهيك عن عملية التنوير والتغيير، وبذلك لم يكن الزبيدي بعيدًا عن غسان كنفاني أو محمود درويش أو سميح القاسم أو حنّا مينا أو شخصيات فلسطينية وعربية حاول استنطاقها لتروي حقائق راهنة.

 

إبداع متواصل

                أنتج الزبيدي في سوريا فيلم «بعيدًا عن الوطن» (1969)، وفيلم «الزيارة» (1970)،  وكان فيلمه «وطن الأسلاك الشائكة» (1980) شديد الأهمية وثائقيًا، حيث حاول الاحتلال الإسرائيلي منع تصويره، فما كان من الزبيدي إلّا الاتفاق مع طاقم تصوير من ألمانيا الاتحادية للقيام بالمهمّة، وتمّ تصوير الفلاحين واللاجئين، إضافة إلى المستوطنين الصهاينة، بما يعكس حالة الاستلاب الفلسطيني والتغوّل الصهيوني، وذلك عبر وثائق بصرية للقضية الفلسطينية، تتناول تاريخها.

وحازت أفلامه على جوائز عربية وعالمية عديدة، علمًا بأنه كان قد تعاون مع عدد من المخرجين السوريين، مثل عمر أميرلاي ومحمد ملص ونبيل المالح.

أفلام وكتب سينمائية

أخرج قيس وشارك في عدد من الأفلام السينمائية على مدى زاد عن ثلاثة عقود من الزمن، ومنها:

-              مائة وجه ليوم واحد 1969

-              الزيارة 1970

-              مقلب في المكسيك 1972

-              وجه آخر للحب 1973

-              اليازلي 1974

-              بيروت يا بيروت 1975

-              وطن الأسلاك الشائكة 1980

لم يكتفِ الزبيدي بإخراج عدد من الأفلام وتأسيس الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني، بل ألّف عددًا من الكتب عن السينما، كما صدر عن أفلامه كتاب بعنوان «عاشق من فلسطين» للناقد محسن ويفي (القاهرة، وزارة الثقافة، 1995)؛

 ومن كتبه:

-              بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني-  نحو درامية جديدة (2001)

-              درامية التغيير: برتولت بريشت (2004)

-              المرئي والمسموع في السينما (2006)

-              فلسطين في السينما (2006)

-              الوسيط - في السينما (أبوظبي، مهرجان أفلام من الإمارات، 2007)

-              مونوغرافيات في نظرية وتاريخ صورة الفيلم (دمشق)، المؤسسة العامة للسينما (2010)

-              في الثقافة السينمائية -  مونوغرافيات (القاهرة)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، آفاق سينمائية، (2013)

-              الفيلم التسجيلي: واقعية بل ضفاف، رام الله، فلسطين، وزارة الثقافة الفلسطينية، 2017

-              دراسات في بنية الوسيط السينمائي (الشارقة، دائرة الثقافة، 2018)

إرث فني كبير

ترك قيس الزبيدي إرثًا فنيًا كبيرًا في السينما العربية، وخصوصًا في السينما الفلسطينية، على الرغم من قساوة الظروف التي عاشها في المنفى، لكنه أسهم في بناء السينما الوثائقية والتسجيلية على نحو مبتكر وجديد، مخرجًا وكاتبًا ومصورًا ومونتيرًا وناقدًا وباحثًا سينمائيًا، فالسينما كانت طريق الزبيدي إلى العالم، رسولًا للحريّة والحق وفلسطين والجمال، وإلى جانب ذلك، امتاز قيس بدماثة الأخلاق، وكان لسانه معطرًا، مثلما كان صافي السريرة، لا يحمل غيظًا أو كراهية، ودودًا إلى أبعد الحدود، وحتى حين يريد التعبير عن رأيه فإنه ينتقي كلماته بدقة وموضوعية واحترام لرأي الآخر.

 برحيل قيس الزبيدي خسرنا قامة فنية وأخلاقية رفيعة من جيل ظلّ حالمًا على الرغم من الانكسارات والخيبات والمرارات.

أكاديمي ومفكّر


مشاهدات 60
أضيف 2025/01/12 - 5:48 PM
آخر تحديث 2025/01/13 - 8:49 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 198 الشهر 6001 الكلي 10095966
الوقت الآن
الإثنين 2025/1/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير