1931-1948.. مشاريع الوحدة العربية مع فلسطين وعوامل فشلها
عمار الصالح
المقدمة:
شّكلت القضية الفلسطينية المحور الرئيس في اهتمامات العرب القومية منذ مطلع القرن العشرين بعد أٌنْ شهدت البلاد العربية تشكل كياناتها السياسية وتمتع شعوبها بنوع من الحرية والاستقلال مقارنة مع ما كانت تعيشه فلسطين خلال تلك المرحلة من خطر الاستيطان اليهودي الذي بدأ يفرض وجوده في ظل دعم سلطة الاحتلال البريطاني التي بسطت سلطتها على فلسطين نهاية عام 1917وسعت خلال مدة وجودها الذي استمر حتى عام 1948 بكل الطرائق والأساليب لتحقيق وعد بلفور المشؤوم القاضي بإقامة الوطن القومي اليهودي على ارض فلسطين العربية, ودفع هذا الخطر الوجودي إلى انبثاق مشاريع وحدوية عربية انطلقت من العراق وتبعه الأردن في هذا المجال كمحاولة لحل القضية الفلسطينية والحد من مخاطر الحركة الصهيونية على البلاد العربية.
واعتمدت الدراسة مادتها التاريخية على مجموعة متنوعة من المصادر كان لبعضها أهمية كبيرة جداً في تسليط الضوء على المشاريع الوحدوية العربية مع تطورات الأحداث السياسية في الساحة العربية والدولية, إذ رفدت الأطاريح والرسائل الجامعية غير المنشورة بمعلومات مهمة ومفيدة منها رسالة الماجستير للباحث ربا وفيق احمد (المشاريع الهاشمية الوحدوية وانعكاسها على السياسة السورية الداخلية (1940-1956), في حين كان للكتب العربية دور مهم في امداد الرسالة بالمعلومات القيمة وكان في مقدمتها كتاب بـ (الاتجاهات الوحدوية في الفكر القومي العربي المشرقي (1918-1952) للمؤلف هادي حسن عليوي, وكتاب (مشروع سورية الكبرى) لنجلاء سعيد مكاوي, فضلاً عن مجموعة قيمة من المصادر العربية والمعربة والصحف والدوريات العربية التي أعطت وصفاً كاملاً عن مادة الدراسة.
اولاً- مشروع الهلال الخصيب:
تعود بدايات توجه العراق نحو العمل على انشاء دولة عربية موحدة في المشرق العربي إلى عهد الملك فيصل الأول(1), الذي جعل الوحدة العربية احد المبادئ الرئيسة في سياسته الخارجية لذلك سعى منذ اواخر العشرينيات لتحقيقها من خلال اقامة اتحاد فدرالي بين العراق وسورية كخطوة أولى لإيجاد حل للقضية السورية التي كانت آنذاك تحت الاحتلال الفرنسي, وسعى من خلال هذا التوجه إلى تهيئة الاجواء نحو تأسيس اتحاد عربي ينضم اليه فلسطين فيما بعد(2).
توقيع معاهدة
كان التحرك الرسمي للملك فيصل الأول نحو مشروع الاتحاد العربي بدأ بعد توقيع المعاهدة العراقية - البريطانية عام 1930(3), التي تضمنت استقلال العراق وانضمامه إلى عصبة الامم كدولة مستقلة عام 1932 فكان ذلك أولى خطوات فيصل لتحقيق حلمه في إقامة مشروع الاتحاد العربي الذي وجد فيه أن تأسيس دولة متحدة تشمل العراق وسورية وفلسطين تحت السلطة الهاشمية يعطي مبررا مقنعا لموضوع المصالحة بين العرب واليهود في فلسطين(4), وتوافقت الطروحات الوحدوية التي حملها فيصل الأول مع توجهات نوري السعيد(5), الذي كان من اكبر مؤيدي الملك فيصل في مشروعه هذا, إذ قام السعيد في سبيل ذلك بجولات عده إلى شرق الاردن وفلسطين ومصر عام 1931 لشرح خطة مشروع الاتحاد العربي, كذلك عقد الملك فيصل قمة عربية في بغداد لتوضيح خطته ونظم جولة في اوربا في اب 1931 بهدف الدعوة إلى مشروعه الوحدوي(6).
غير ان وفاة الملك فيصل الأول في ايلول 1933 طوت المشروع مؤقتاً حتى احياه مجددا نوري السعيد عام 1936 مستفيدا من تطورات الاوضاع في فلسطين التي كانت تشهد اكبر ثورة شعبية ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان اليهودي, إذ حصل السعيد الذي كان يشغل وزير الخارجية العراقي على تفويض من حكومته لإيجاد حل للقضية الفلسطينية, واوضح السعيد خلال لقائه المسؤولين البريطانيين في فلسطين في اب 1936 ان ((الحل يكمن في إقامة دولة عربية كبرى في الشرق الادنى يمكن للمكون القومي اليهودي أن يجد مكانا له فيها...))(7), وفي الوقت نفسه التقى السعيد مع اعضاء من اللجنة العربية العليا(8), في مقدمتهم عوني عبد الهادي(9), ومحمد عزة دروزه(10), في معسكر اعتقالهم حيث كان البريطانيون يأملون من تحركات السعيد هذه استمالة القيادات الفلسطينية للدعوة إلى وقف ثورتهم المسلحة, وهذا ما طلبه السعيد من الفلسطينيين مقابل ضمانات بوقف الهجرة واصدار عفو عام عن المعتقلين (11).واستثمر السعيد اللقاءات التي جمعته بالقيادات الفلسطينية ليطرح عليهم مشروع الاتحاد العربي, مطالبا اياهم العمل من اجل تحقيق هذا المشروع الذي يقوم على ضم العراق وشرق الاردن وفلسطين في اتحاد واحد ويتمتع اليهود فيه بمناطق ادارية خاصة بهم على ساحل البحر المتوسط بينما يحتفظ العرب بباقي اجزاء فلسطين(12), ووفق رؤية السعيد فإن تأسيس اتحاد عربي لن يثير خوف العرب من التوسع اليهودي في هذا الاتحاد العربي الكبير, ومن جهة اخرى سيشعر اليهود بالأمن والاستقرار اذا سمح لهم بنوع من الحكم الذاتي مع ضمان دولي داخل دولة عربية كبرى(13).كان السعيد يأمل ان يحظى مشروعه بموافقة رسمية من اللجنة العربية العليا التي تعد الممثل الشرعي للفلسطينيين والذي ساهم شخصياً في اطلاق سراح اعضائها من المعتقلات البريطانية في فلسطين لتعود إلى ممارسة نشاطها السياسي وتعقد اجتماعاتها, غير ان اللجنة العربية كانت تعاني من التناحر وفقدان الثقة بين اعضائها ولم يصدر عنها أي موقف واضح وصريح تجاه مشروع الاتحاد العربي(14), ولم يجد المشروع تجاوباً كبيراً من الفلسطينيين بسبب تشتت اكثر الزعماء السياسيين(15).
وفي ايلول 1936 عرض نوري السعيد مقترحه إلى هربرت صموئيل(16), المندوب السامي البريطاني الأول في فلسطين بهدف اطلاع الجانب البريطاني على هذه المقترحات ومحاولة كسب دعمهم في تحقيقه(17), لكن طروحات السعيد اثارت مخاوف الحركة الصهيونية التي اتهمت السياسة البريطانية بانها تحولت ضدها فيما يخص وعودها بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين, وعليه هددوا باللجوء إلى العنف في حال الموافقة على مشروع الوحدة العربية مع فلسطين(18), إذ حصل الصهاينة على مضمون المحادثات بين نوري السعيد واعضاء اللجنة العربية العليا, وعملوا على نشرها في جريدة فلسطين بوست(19), في ايلول 1936 وعليه لوحت الحركة الصهيونية إلى استخدام العنف ضد البريطانيين في فلسطين في حال تمرير اتفاق نوري السعيد مع قيادات اللجنة العربية(20), كذلك عارض امير شرق الاردن عبد الله بن الحسين(21). جهود نوري السعيد في مشروع الاتحاد العربي وطلب من البريطانيين ايقاف هذه الجهود وتقديم الدعم له فقط في مشروعه الوحدوي الذي اقترحه مع فلسطين وبدأ تحركاته في سبيل تحقيقه (22).
اتحاد عربي
وعلى الرغم من ان بريطانيا لم تهتم كثيرا بتوصيات عبد الله لكن ساعدها ذلك في اعلان معارضتها لمشروع الاتحاد العربي الذي تقدم به العراق, وتذرعت بان المشروع سيثير مخاوف ملك السعودية عبد العزيز ال سعود(23), ومعارضته لما يحمله من مخاطر تمدد الهاشميين في المنطقة العربية (24).ويبدو ان نوري السعيد قد واصل جهودا شخصية في هذا الاتجاه بعد ان اضطر إلى مغادرة العراق نتيجة الانقلاب العسكري الذي شهدته بغداد بقيادة الفريق بكر صدقي(25), في التاسع والعشرين من تشرين الأول 1936 والذي اطاح بوزارة ياسين الهاشمي ذات التوجهات القومية العربية وكان السعيد احد اقطابها(26), ليرحل إلى مصر بعد ان منع من الاقامة في شرق الأردن بسبب تدخله في الشؤون الفلسطينية(27).
وطرحت حكومة الانقلاب بقيادة بكر صدقي افكاراً مشابهة لأفكار نوري السعيد بصدد القضية الفلسطينية, اذ اشار تقرير بريطاني في السابع عشر من شباط 1937 إلى مشروع قدمته الحكومة العراقية يقترح تأسيس اتحاد فدرالي يضم فلسطين وشرق الأردن والعراق, غير ان الحكومة الجديدة في بغداد انشغلت بشؤونها الداخلية على حساب سياستها الخارجية ولم يجد مقترحها أهمية عند البريطانيين(28), في حين استمر نوري السعيد في الترويج لمشروع الاتحاد العربي من محل اقامته في القاهرة وتحدثت برقية بريطانية.
في التاسع عشر من اب 1937عن تعديل اجراه السعيد لمشروعه السابق, لكن لم يحصل على رد ايجابي من الجانب البريطاني ايضاً بحجة ان المشروع لم يحظ بموافقة الفرنسيين واليهود هذه المرة(29), ونتيجة لهذه الطروحات العراقية اكدت سلطة الاحتلال البريطاني في فلسطين انه لا المندوب السامي ولا الحكومة البريطانية قدما موافقتهم على وقف الهجرة اليهودية أو على وساطة العراق الدائمة في الشؤون الفلسطينية(30).
وكان الموقف البريطاني من ضم فلسطين إلى محيطها العربي متحفظاً ولم يتقبلوا طروحات نوري السعيد تجاه القضية الفلسطينية بارتياح كبير وبلغ استياءهم من مواقف السعيد ان تذرعوا بشتى الذرائع للحيلولة دون سفره مجددا إلى عمان أو القدس(31), إذ كانت بريطانيا تخشى ان يؤدي الاتحاد العربي إلى تعريب القضية الفلسطينية.
وبالتالي صعوبة تحقيق وعدها في إقامة الوطن القومي اليهودي, ونوهت مجددا بان المشروع سيثير مخاوف عبد العزيز ال سعود ويؤدي الى توترات في المنطقة(32).
ويبدو ان طرح مشروع الوحدة العربية مع فلسطين من قبل العراق دفع بالجانب البريطاني إلى تبني مشروع اخر لمعالجة القضية الفلسطينية يقوم على تقسيم البلاد على دولتين عربية واخرى يهودية.
إذ اعلنت الحكومة البريطانية في الثامن عشر من ايار عام 1936 عن تعيين لجنة تحقيق بريطانية عرفت بلجنة بيل الملكية Peel Commission Royal))(33), غرضها التحقيق في أسباب الاضطرابات وفي ظلامات العرب واليهود المزعومة, وباشرت لجنة التحقيق عملها بعد قدومها إلى فلسطين في تشرين الثاني 1936, ورفعت اللجنة تقريرها إلى الحكومة البريطانية في مطلع عام 1937 والذي تألف من أربعمائة صفحة بدأ بإعطاء موجز عن تاريخ فلسطين عبر العصور القديمة خاصة تاريخ العرب واليهود في هذه المنطقة, ثم تطرق للحديث عن الوعود البريطانية للعرب إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والأوضاع الداخلية في فلسطين, وذكرت في هذا الصدد أن البلاد شهدت تباعاً اضطرابات منذ عام 1920 وحتى عام 1936(34). وبينت اللجنة في تقريرها أن سبب المشكلة يعود في المقام الأول إلى تخوف الفلسطينيين من عدم ايفاء بريطانيا لوعودها السابقة للعرب والقائمة على أساس منحهم حكماً ذاتياً واستبدال ذلك بالوطن القومي لليهود(35).
وكان أهم الفصول الذي تضمنها تقرير لجنة بيل هو الفصل الثاني والعشرين الذي يدعو إلى تقسيم فلسطين على دولتين احداهما عربية وأخرى يهودية, وان تقدم كل من الدولتين ضمانات لحماية الاقليات وينتقل اليهود القائمون في الدولة العربية المقترحة إلى الدولة اليهودية وينتقل العرب من الدولة اليهودية إلى الدولة العربية بشكل تدريجي(36).
وازاء هذه التطورات ادرك نوري السعيد خطر المناورات الجريئة القائمة على تأسيس دولة يهودية في فلسطين وتأثير ذلك على مستقبل البلاد العربية(37), فسعى إلى حل المعوقات التي كانت تواجه مشروع الاتحاد العربي وفي مقدمة ذلك ايجاد التفاهم مع الامير عبد الله بن الحسين وترتيب التعاون فيما يخص تأسيس اتحاد عربي تحت حكم البيت الهاشمي نفسه, لكن شكوك عبد الله استمرت من طروحات نوري السعيد فكان رده سلبيا واستمرت مخاوفه ومعارضته للتوجهات العراقية(38).
أما فيما يخص تقسيم فلسطين فلم توفق بريطانيا في هذا المشروع خلال تلك المدة بسبب خطر نشوب حرب عالمية جديدة, مما دفع بالحكومة البريطانية إلى تجاهل توصيات لجنة بيل الملكية بتقسيم فلسطين على دولتين عربية ويهودية(39), واعلنت أن المصاعب السياسية والإدارية والمالية التي ينطوي عليها اقتراح إنشاء دولة عربية مستقلة وأخرى يهودية هي كبيرة بدرجة تجعل هذا الحل غير عملي(40), وعليه اصدرت الحكومة البريطانية في ايار 1939 الكتاب الابيض الذي اعربت فيه عن معارضتها تحويل فلسطين إلى دولة يهودية وانها ستحد من الهجرة وستنظم مبيعات الاراضي, واكدت انها ستعمل على اقامة دولة فلسطينية مستقلة في غضون العشر سنوات القادمة, وبذلك تراجعت بريطانيا مرحليا عن مشروع التقسيم(41).
ويمكن القول ان اصدار الكتاب الابيض وما تضمنه من وعود بريطانية اوجد نوعا من الارتياح عند الفلسطينيين وزاد من اطمئنانهم في الحصول على دولة مستقلة لهم, وهذا ما يفسر عدم التعاطي والتفاعل مع المشاريع الوحدوية العربية.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945) جّدد نوري السعيد الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء العراقي, دعوته إلى الاتحاد العربي من خلال مذكرة جديدة قدمها في كانون الاول 1942 إلى وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط المقيم في القاهرة ريتشارد كيسي (Richard Casey) بين فيها خطورة الموقف, وطالب بالعمل على رفض انشاء دولة يهودية مستقلة في البلاد العربية, واكدت المذكرة على ضمان مستقبل اليهود في حكم ذاتي داخل اطار الاتحاد العربي(42).
وجاءت المذكرة بعنوان (استقلال العرب ووحدتهم) ووزعها السعيد شخصياً على عدد من زعماء العرب, وطبعت في كتاب تحت عنوان (الكتاب الازرق) وعرفت المذكرة بـ(مشروع الهلال الخصيب) الذي وضح فيها نوري السعيد أهم السمات العامة لمشروع الاتحاد العربي للدول العربية(43), ولخص تصوره لوحدة العرب وحل القضية الفلسطينية, وكان ابرز ما حمله مشروع الهلال الخصيب توحيد سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين في دولة واحدة, وانشاء جامعة عربية تضم العراق وسورية مع انشاء مجلس دائم للجامعة(44), كما اكد على حق اليهود في فلسطين في ادارة اقاليمهم في المدن والارياف بما في ذلك المدارس والمؤسسات الصحية والشرطة المحلية على ان تكون تحت اشراف الدولة, فيما تكون القدس مفتوحة لمعتنقي الاديان السماوية جميعها(45).
وبذل السعيد جهوداً كبيرة لإقناع الاطراف المعنية بمشروعه فاردا قبل كل شيء ترضية بريطانيا وكسبها إلى جانبه, فاعلن بعد طرح مشروع الهلال الخصيب عن دخول العراق الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء ضد دول المحور, وحاول تبرير موقفه هذا امام المجلس النيابي العراقي بالرغبة في ((تحقيق امال البلاد في اقامة اتحاد عربي تحت زعامة الاسرة الهاشمية))(46), وفي الوقت نفسه سعى إلى اقناع الحكومات العربية بآرائه ففي اذار 1943 ارسل وفدا برئاسة جميل المدفعي(47), إلى سورية والاردن ومصر للتشاور مع حكامها لعقد مؤتمر لهذا الغرض (48).
لكن هذه الجهود التي عمل عليها العراق من خلال نوري السعيد لم يكتب لها النجاح في تحقيق مشروع الاتحاد العربي لما واجهه من تحديات عربية ودولية كبيرة, رغم ان هذه الطروحات التي تضمنها مشروع الهلال الخصيب اصبحت اساساً فيما بعد لمشروع انشاء جامعة الدول العـربية التي ساهم العراق بدور فعال في تشكيلها في اذار عام 1945 والتي اكدت في ميثاقها إلى تدعيم العلاقات والوشائج العربية في إطار من احترام الاستقلال والسيادة بما يحقق صالح عموم البلاد العربية (49).
ويبدو ان الطروحات العراقية التي قادها نوري السعيد منذ عام 1936 نحو إقامة اتحاد عربي مع فلسطين اخذت بالفتور مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 لصالح بريطانيا وحليفاتها وتزامن ذلك مع تنامي النشاط الصهيوني في فلسطين الذي اصبح وجوده يقترب من دولة مستقلة رغم وجود سلطة الاحتلال البريطاني.
ثانياً- مشروع سورية الكبرى:
بعد تولي عبد الله بن الحسين امارة شرق الأردن عام 1921 حمل ضمن طموحاته السياسية مشروع تزعم البلاد السورية الاربعة المتمثلة بسورية ولبنان اللتان كانتا تحت الاحتلال الفرنسي, وفلسطين المحتلة من البريطانيين وامارة شرق الأردن التي كانت تحت سلطانه, وتجسد هذا المشروع فيما بعد بـ(مشروع سورية الكبرى), إذ كان الامير عبد الله يمتلك الطموحات السياسية ويسعى بكل الطرق إلى توسيع حكمه مستثمرا جميع الفرص المتاحة امامه في هذا الجانب(50).
ودفعت التطورات التي شهدتها الساحة الفلسطينية وتوجه العراق نحو إقامة اتحاد عربي واعلان بريطانيا عن مشروع تقسيم فلسطين على دولتين عربية ويهودية, بعبد الله بن الحسين لإرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية نهاية عام 1936 يطالب فيها بإقامة اتحاد تحت رئاسته يضم امارة شرق الأردن وسورية كخطوة أولى نحو تحقيق هدفه في إقامة اتحاد عربي يضم فلسطين ولبنان(51), وكانت لهذه التوجهات التي اعلنها عبد الله اثرها في تفجر الخلافات مع الحكومة العراقية التي سبقته في العمل على مشروع الاتحاد العربي(52), إذ اتخذ عبد الله موقفا متحفظا من المشروع الذي عمل عليه العراق منذ مطلع الثلاثينيات وتصدى له, بالمقابل واصل عبد الله اتصالاته مع الوكالة اليهودية(53), في فلسطين لغرض ان يظهر لهم في موقفٍ داعياً إلى التهدئة خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) ومقبولاً من الاطراف جميعها(54),
وفي حين اعربت بريطانيا رفضها لمشروع اقامة وحدة بين سورية وشرق الأردن تجنبا للخلافات مع الفرنسيين(55), توجه الامير عبد الله نحو فلسطين وكان هذا التوجه يأتي كون فلسطين هي اقرب الاقطار العربية إلى شرق الأردن وتربطهم علاقات اجتماعية واقتصادية وثيقة, وجاء طرحه في إقامة اتحاد عربي مع فلسطين كخطوة أولى على طريق الوصول إلى وحدة سورية الكبرى, وشجعه على ذلك وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني التي كانت تربطه معهم علاقات جيدة(56), وفي سبيل تحقيق هدفه عمل عبد الله على ايجاد حلفاء له في فلسطين لتحقيق هدفه في إقامة مملكة عربية من شرق الأردن وفلسطين(57).
تضمن مشروع الأمير عبد الله الذي طرحه في عمان خلال لقاء جمعه بلجنة بيل الملكية البريطانية في كانون الثاني 1937 تشكيل مملكة موحدة عربية تتألف من فلسطين وشرقي الأردن تحت يد ملكية عربية قادرة على القيام بمهمتها وتنفيذ تعهداتها, وتعطي هذه المملكة إدارة محلية لليهود في المناطق اليهودية التي تتعين خريطتها بواسطة لجنة تتألف من رجال بريطانيين وعرب ويهود, ويكون لليهود التمتع بكامل ما تتمتع به أية إدارة محلية, ويمثل اليهود في برلمان الدولة العربية بنسبة عددهم ويؤخذ في وزارة الدولة الموحدة وزراء منهم وتنحصر الهجرة اليهودية بنسبة معقولة إلى تلك الأراضي(58).
ويظهر ان المشروع الذي جاء به الامير عبد الله بن الحسين لم يختلف في تفاصيله كثيرا عن مشروع الاتحاد العربي الذي تقدم به العراق والذي رفضه عبد الله وامتنع عن التعاون في تحقيقه.
وعلى اية حال سعى الامير عبد الله بن الحسين في سبيل تحقيق هذا المشروع إلى وجود جهة فلسطينية تتبناه وتؤيده, ومن اجل ذلك بذل جهودا ليقنع حزب الدفاع الفلسطيني(59), بدعم مشروعه لكن الاخير رفض ان يفعل ذلك, كما حاول عبد الله ان يجند عوني عبد الهادي من قيادات حزب الاستقلال الفلسطيني, لكن عبد الهادي رفض المشروع(60), كما اصدرت اللجنة العربية العليا بياناً اعربت فيه عن رفضها مقترحات الامير عبد الله لحل القضية الفلسطينية وأي حل لا يتفق مع الميثاق الوطني الذي ينص على استقلال فلسطين ووقف الهجرة اليهودية ومنع بيع الأراضي, كما قابلت الاحزاب والقيادات الفلسطينية هذه المقترحات بالرفض ايضاً(61).
وكان الرفض الفلسطيني تجاه طروحات الامير عبد الله يأتي لتأكدهم من ان هدفه الأساس هو ضم فلسطين إلى الأردن وليس لعلاج القضية الفلسطينية ولشكهم ايضاً في وجود علاقات تربطه مع القيادات الصهيونية, وهذا ما اكدته جريدة الكرمل الفلسطينية(62), التي اعربت عن مخاوفها من مشروع عبد الله وبينت ان ((السياسة في شرق الأردن لم تقدم إلى الان الادلة الحسية على أنها تخشى التوسع اليهودي وبالعكس شاع عنها انها تتحين الفرصة وتعد العدة لتسهيل دخول اليهود إلى تلك المنطقة البكر...))(63), في حين كانت مطالب الفلسطينيين تقوم في اطار إقامة دولة مستقلة لهم مستندين في ذلك إلى مبدأ أساس هو حق الشعب الفلسطيني بكامل وطنه, وبالتالي التسليم بوحدة هذا الوطن الامر الذي يترتب عليه إقامة هذه الدولة على الأراضي الفلسطينية جميعها التي تعينت حدودها في العشرينات بعد الاحتلال البريطاني لها(64).
ولم يقتصر رفض مشروع الامير عبد الله على الفلسطينيين انفسهم, بل ابدت الحكومة البريطانية رفضها للمشروع بحجة انه ((لا يضع قواعد للتفاهم والاتفاق بين اليهود والعرب)) كما ذكر ذلك وزير المستعمرات البريطاني مالكوم مكدونالد MacDonald Malcolm))(65), في جلسة مجلس العموم في الثالث عشر من تموز عام 1938(66), في حين كان الموقف العراقي رافضاً لمشروع عبد الله المنافس لمشروعهم رغم ان العراق لم يبد منه تصريح رسمي في هذا الشأن لكن ظهر هذا الرفض واضحاً في اعتذار نوري السعيد في دعم طروحات عبد الله, كما شنت الاذاعات العراقية حملة ضد الامير عبد الله ومقترحاته لمدة طويلة(67), كذلك وقفت المملكة العربية السعودية ضد مشروع عبد الله بوصفه محاولة لتوسيع الهيمنة الهاشمية على الدول العربية (68).
غير ان هذه المواقف والاتهامات لم تثنِ الامير عبد الله بن الحسين من مواصلة طموحاته في إقامة وحدة سياسية مع فلسطين يكون هو زعميها, حيث عمل بعد فشل مؤتمر الطاولة المستديرة الذي دعت اليه بريطانيا عام 1939 للتوفيق بين العرب واليهود في فلسطين, إلى تجديد مشروعه الوحدوي محاولاً بذلك البقاء على صلة مع الوكالة اليهودية لأجل الحصول على دعمهم في هذا الجانب مقابل التلويح لهم بمنحهم الحكم الذاتي وإمكانية الاستيطان في مناطق اوسع من تلك التي عرضت عليهم في مشروع تقسيم فلسطين(69).
وعليه جدد عبد الله في الأول من تموز 1940 مذكراته إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين السير هارولد ماك مايكل (Mac Maicheal)، اوضح فيها اهتمام الرأي العام العربي الشديد بقضية البلاد العربية ومستقبلها, غير ان الاخير طلب منه التريث في هذا الموضوع حتى ينجلي الموقف الحربي(70), وخلال هذه المدة كانت بريطانيا التي تحكم قبضتها على المشرق العربي تواجه ازمات سياسية وعسكرية واقتصادية نتيجة تطورات الحرب العالمية الثانية, إذ عانت من التدخل الالماني في شمال افريقيا وهزيمة فرنسا امام المانيا وازدياد نفوذ المحور في المنطقة العربية وعدم دخول الولايات المتحدة الامريكية الحرب إلى جانبها وترافق ذلك مع تصاعد التيار القومي العربي واتساعه لتحقيق طموحات العرب القومية والتي بدت واضحة في ثورة مايس عام 1941 في العراق(71).
ودفعت هذه الاوضاع بريطانيا الى اعادة النظر في مواقفها المتصلبة تجاه طموحات العرب القومية فظهرت السياسة البريطانية الجديدة تجاه العرب متمثلة بتصريح وزير خارجيتها انتوني ايدن (Anthony Eden) في ايار 1941 الذي اشار فيه إلى دعم بريطانيا للوحدة العربية (72), وابدى الامير عبد الله بن الحسين ترحيبه بخطاب ايدن وسعى إلى الاستفادة منه(73).
وبناء على ذلك وضعت الاجهزة الوزارية البريطانية في كانون الاول 1941 دراسة لمعالجة موضوع الاتحاد العربي استعرضته في تقرير تناول الفوائد والاضرار في اقامة الاتحاد العربي, فمن الفوائد الواردة في مشروع الاتحاد العربي زيادة النفوذ البريطاني في الوطن العربي وحل المشكلة الفلسطينية بما يرضي العرب واليهود, أما المضار المترتبة على إقامة هذا الاتحاد حسب الرؤية البريطانية فتتمثل في عدم استعداد الرأي العام العربي للاتحاد لأنه يستدعي التضحيات بالمصالح المحلية لحساب المصالح القومية, واثارة العداء بين الاسر الحاكمة والشقاق الديني والنزاع الطائفي اضافة إلى معارضة فرنسا والوكالة اليهودية لأي اتحاد عربي(74), واشتمل التقرير على ملحق تضمن ثلاثة مشاريع استثنت جميعها مصر والمغرب العربي حيث اقتصر المشروع الأول على اقطار اسيا العربية جميعها ويتولى رئاستها احد رؤساء الدول الاعضاء بصورة دورية أو انتخاب عبد العزيز ال سعود رئيسا له مدى الحياة, فيما تكون المشروع الثاني من اقطار الهلال الخصيب, أما الثالث فيتكون من سورية الكبرى(75), ولم يكتب لهذا التوجه ان يأخذ مجاله الفعلي إذ اهملته السياسية البريطانية لكنه يعد أول دراسة من نوعها تضعها الاجهزة الوزارية البريطانية في هذا الجانب من وجهة النظر والمصالح البريطانية في المنطقة, على الرغم من ان بريطانيا اغفلت في تقريرها أية اشارة إلى تطلعات العرب القومية نحو الوحدة واعتمدت وجهة نظر ومصالح الحكام العرب المتعارضة فيما بينها وعدها وجهة نظر الراي العام العربي(76).
ويبدو ان التلويح البريطاني في اقامة اتحاد عربي موحد كان يقف وراءه تحقيق هدفين رئيسين لبريطانيا الأول يتمثل في زعزعة النفوذ الفرنسي في سورية ولبنان بعد ان سقطت باريس بيد الالمان, أما الثاني فهو الابقاء على ولاء الهاشميين لها في هذه الظروف(77), وفي تلك الاثناء واصل عبد الله رسائله ومذكرات حكومته إلى المسؤولين البريطانيين, وتبنى في اذار 1943 عقد مؤتمر وطني في عمان خرج بمشروعين لوحدة سورية الكبرى ورغم اختلاف بعض التفاصيل الشكلية بين المشروعين لكن كان محورهما الرئيس اقامة دولة عربية موحدة تتألف من سورية وشرق الأردن وفلسطين ولبنان(78), وفي الرابع من اب 1947 جدد عبد الله بعد عام من تتويجه ملكاً على الاردن الدعوة إلى مشروعه بإصداره بيان اكد فيه ان وحدة سورية الكبرى لابد ان تتعدى مرحلة الاقوال وتأخذ شكلاً عملياً في حدود الامكانات المشروعة, مؤكدا ان شكل الحكم للدولة المقترحة يكون وفق النظام الملكي أما النظام الجمهوري فهو نظام اوجدته التجزئة الاستعمارية, وفي نهاية البيان دعا عبد الله الى عقد مؤتمر تمهيدي يقرر وضع الوحدة لسورية الكبرى موضع التنفيذ(79).
ومجددا اعلنت بريطانيا موقفها الرافض لمثل هذه التوجهات واصدرت بياناً رسمياً جاء فيه ان لا علاقة للحكومة البريطانية مطلقا بما يقال عن مشروع سورية الكبرى, وانها لا تعلم شيئا عنه ولا تؤيده ولا تفكر فيه, كذلك اثار بيان عبد الله استياء السلطات الفرنسية في سورية ولبنان(80), وابدت حكوماتا سورية ولبنان التان نالتا استقلالهما منذ وقت قصير امتعاضهم من هذه التوجهات حيث اصدرت الحكومتان بلاغا مشتركا في السابع والعشرين من اب 1947 جاء فيه انه بعد تداول الجانبان السوري واللبناني في شتى الامور التي تهم الدولتين ومنها بيان الملك عبد الله الذي كان موضع استغرابهما واستنكارهما لتدخله في شؤون جمهوريتي سورية ولبنان وتعرضه لنظام الحكم فيهما ومخالفته في ذلك ميثاق جامعة الدول العربية ومبادى القانون الدولي(81), كذلك استمرت المعارضة السعودية لهذه المشاريع لما بين الاسرة الهاشمية والسعودية من تنافس وصراع تاريخي على الزعامة في المنطقة, وادعاء كل منهما بأحقية الرئاسة وحذرت السعودية الملك عبد الله من الاستمرار بهذا التوجه ونوهت إلى انها على استعداد لخوض معركة في الأردن اذا ابدى أي حركة في هذا الشأن, كما اصدرت المفوضية السعودية في كل من بغداد والقاهرة بيانا رسميا اكدتا فيه ((ان المشروع يعد منافيا للقوانين الدولية وميثاق هيئة الامم المتحدة ولميثاق الجامعة العربية بنصه وروحه واغراضه واهدافه))(82), واتسم موقف العراق تجاه المشروع الأردني بالحذر سيما انه صاحب مشروع الهلال الخصيب ومع ذلك فان عبد الله حصل في بداية الامر على تأييد فردي من بعض الساسة العراقيين لكن عندما تبلور مشروعه سارع العراق إلى التنصل منه معلناً انه لا شأن له بسياسة الاردن(83).
ومع تطور القضية الفلسطينية واتضاح التوجه الدولي في تقسيم فلسطين على دولتين يهودية واخرى عربية كما اقرته اللجنة الدولية انسكوب unscop))(84), وان توضع القدس تحت نظام الوصاية الدولية حسب ما اقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947 واعلان بريطانيا عزمها انهاء ادارتها على فلسطين في ايار 1948(85), حاول عبد الله استثمار هذه التطورات لصالحه فاعلن للبريطانيين دعمه لمشروع تقسيم فلسطين بغية ضم الاجزاء العربية من الدولة المقترحة إلى مملكته, وعليه وقف بالضد من إقامة حكومة عربية في فلسطين يتزعمها مفتي القدس امين الحسيني, واعلن انه بصدد السيطرة على فلسطين بمجرد خروج البريطانيين منها والتفاهم مع اليهود في هذا المجال(86).
واثارت تلك التوجهات ردود فعل عربية ضد الملك عبد الله, إذ ابدت مصر معارضتها الشديدة سيما مع اعلان عبد الله رغبته ان يحل الجيش الاردني محل البريطانيين في الجزء العربي من فلسطين, حيث لم يطمئن الملك فاروق(87), إلى ما يسعى عبد الله إلى تحقيقه مما جعل فاروق يصدر بياناً في جامعة الدول العربية في نيسان 1948 اكد فيه انه اذا دخلت جيوش عربية فسلطين لإنقاذها فجلالته يريد ان يفهم صراحة انه يجب النظر إلى هذه التدابير كحل مؤقت خال من كل صفة من صفات الاحتلال أو التجزئة في فلسطين وانه بعد اتمام تحريرها تسلم إلى اصحابها ليحكموها كما يريدون(88).
واستمر الملك عبد الله في طروحاته التي تحولت إلى طموحات شخصية في التوسع والسيطرة بضم فلسطين إلى الأردن متخذا في سبيل ذلك مواقف عدائية ضد مستقبل فلسطين, إذ عمل على تعطيل أي محاولة لإقامة كيان فلسطيني مستقل بعد الانسحاب البريطاني في ايار 1948 ولم يعترف على خلاف الدول العربية جميعها بلجنة ادارة فلسطين التي شكلتها جامعة الدول العربية في تموز من العام نفسه, وكذلك رفض الاعتراف بحكومة فلسطين التي اعلن عن تشكيلها في غزة في ايلول 1948 والتي عدت الممثل الوحيد للفلسطينيين(89), غير ان تلك الجهود والمواقف التي تبناها عبد الله لم تأتِ بما يحقق طموحاته, بعد ان اصبح لليهود دولتهم الغاصبة في فلسطين ولم يعد بمقدور العرب أن يحولوا دون نشوء الدولة الصهيونية التي اعلن عن تأسيسها على أرضِ فلسطين العربية في الرابع عشر من ايار 1948 لتبدأ بعد ذلك عملية توسيع كيانها على حساب الدول العربية الاخرى(90).
ثالثاً- عوامل فشل المشاريع الوحدوية:
لم يكتب لمشاريع الوحدة العربية مع فلسطين التي انبثقت من العراق وتبعتها الأردن في هذا المسار من تحقيق أهدافها في إقامة دولة عربية موحدة يكون الفلسطينيون احد مكوناتها الرئيسة ولليهود سلطتهم المحلية فيها, إذ حالت عوامل محلية واقليمية ودولية دون ذلك, فعند الحديث عن مشروع الاتحاد العربي الذي طرحه العراق منذ بداية الثلاثينيات وتجسد فيما بعد في مشروع الهلال الخصيب كانت هنالك تحديات كبيرة ساهمت بفشله في مقدمتها الرفض الدولي الذي احبط هذا المشروع, إذ اعتمد القائمون على مشروع الاتحاد العربي على الدور البريطاني في تحقيقه وكانت السياسة البريطانية آنذاك تحاول كسب مشاعر العرب القومية ومسايرتهم في هذه الطروحات غير انها لم تتجه فعلاً إلى أيةِ اجراءات حقيقية لتنفيذ ما طرح عليها من اقامة اتحاد عربي مع فلسطين.
إذ على الرغم من أن إقامة الاتحاد العربي كان سيحقق فوائد للبريطانيين كما ذكر في التقرير الذي وضعته الاجهزة الوزارية البريطانية في كانون الاول 1941 من خلال وجود اتحاد عربي في منطقة حيوية من العالم يكون متعاوناً معهم ويتبنى مواقفهم, إلا انها بررت موقفها الرافض لمثل هذه المشاريع في صعوبة اقناع قادة الدول العربية غير الداخلة في الاتحاد كالمملكة العربية السعودية ومصر في دعم هذا المشروع, كذلك وجدت ان هناك ضبابية حول مستقبل اليهود في هذا الاتحاد وهي التي قطعت على نفسها وعداً بإنشاء وطن قومي لهم على أرض فلسطين(91).
في حين توجس الفرنسيون من تحركات نوري السعيد الذي سافر إلى الجزائر لبحث مشروع الهلال الخصيب مع ممثل حكومة فرنسا الحرة بتشجيع من البريطانيين, واعتقد الفرنسيون أن السعيد يسعى لبسط النفوذ العراقي في المنطقة الفرنسية وهو ما يمثل امتداداً للنفوذ البريطاني, وعليه عملت على احباط هذه المساعي وشرعت السلطات الفرنسية في سورية ولبنان بإثارة المخاوف من عقبات مشاريع الوحدة العربية(92), كذلك لم يختلف موقف الولايات المتحدة الامريكية عن بريطانيا وفرنسا في رفض مشروع الاتحاد العربي(93), ففي الوقت الذي اعربت فيه واشنطن عن عطفها على اماني العرب بالاستقلال والوحدة لكنها شعرت ان ((الخطوات الأولى نحو الوحدة يجب ان تؤكد تقوية الروابط في الميادين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية)) واستمرت في تأييد الدور البريطاني وتوجهة في معالجة القضية الفلسطينية(94).
وكان لموقف الانظمة العربية الاثر الاكبر في فشل مشروع الاتحاد العربي, إذ كان هنالك شبه تنافس سياسي للأمير عبد الله مع التوجهات الوحدوية العراقية حول قضية الوحدة مع فلسطين والتي تسببت في غياب الموقف العربي الموحد حول هذا المشروع, فتصدى عبد الله إلى المشروع العراقي واستغل علاقاته مع البريطانيين لعرقلة تحقيقه, ولم يبد اية استجابة له وكان يرى ان المشاريع العراقية منافسة لمشاريعه وآرائه(95).
ويمكن القول أن موقف عبد الله الرافض لهذا المشروع ينبع من مخاوفه في فقدان عرشه لصالح اسرة اخيه الحاكمة في العراق, في حال نجاح الخطوات العراقية في تشكيل اتحاد عربي يكون مركزه في بغداد واطرافه في الأردن وفلسطين.
كذلك لم يختلف موقف الملك السعودي عبد العزيز ال سعود من مشروع الاتحاد العربي إذ شهدت العلاقات بين العراق والسعودية توتراً خصوصاً في عهد وزارة نوري السعيد الثانية بين عامي (1938 – 1940) نتيجة للتوجه الذي قاده العراق نحو مشروع الاتحاد العربي(96), ورغم محاولة نوري السعيد في ايجاد صيغ التعاون مع عبد العزيز ال سعود لتبديد مخاوفه, لكن الاخير لم يتحمس كثيرا وظل مشككا في نوايا السعيد عبر تدخلاته في الشؤون الداخلية للبلاد العربية, وطلب من بريطانيا عدم الموافقة على مبادراته(97), واكد عبد العزيز على مقاومة أي اتجاه نحو ضم فلسطين ولبنان وسورية وشرق الأردن أو أي من هذه الدول إلى العراق(98), وكان رفضه للمشاريع الوحدوية العربية وتصديه لها يأتي من توجسه في أن تصبح مملكته محاطة بنطاق هاشمي مما يشكل تهديداً وجودياً لها(99).
وأبدت مصر معارضتها للمشاريع الهاشمية بشكل مبطن لأنها وجدت فيها اطماع شخصية للهاشميين لتوسيع حكمهم, ورأت أن المشروعين سيشكلان دولة عربية منافسة لمصر من حيث المساحة والسكان, غير أن الهدف الاساس لهذه المعارضة يأتي لاستبعاد مصر وتهميشها من هذه المشاريع(100), فضلاً عن خشيتها من فقدان دورها في المنطقة العربية بعد ان يمتد النفوذ العراقي داخل بلدان الهلال الخصيب, وعليه اتجهت الحكومة المصرية برئاسة مصطفى النحاس(101), إلى محاولة ايجاد بدائل عن مشروع الهلال الخصيب وسورية الكبرى وتمخضت جهودها في انشاء جامعة الدول العربية كبديل عن مشاريع الوحدة العربية(102), كما برزت في القاهرة في تلك الاثناء دعوات إلى الوحدة العربية تلتقي اغلبها في نقطة واحدة هي الدعوة للوحدة العربية الشاملة وليست الدعوة إلى مشاريع وحدوية اقليمية, فنشطت جمعيات واندية عربية تطالب بتحقيق الوحدة العربية الشاملة ومنها نادي الاتحاد العربي في القاهرة ونادي الاتحاد العربي في بغداد وكانت هذه الطروحات تمثل نقداً شديداً ورفضاً واضحاً لمشروع الهلال الخصيب الذي افتقد شمولية الوحدة العربية ضمن منهاجه(103), في حين كان اجراء الانتخابات النيابية في سورية ولبنان ردا غير مباشر على مشروعي الهلال الخصيب وسورية الكبرى, إذ اسفرت انتخابات تموز 1943عن فوز الكتلة الوطنية في سورية وفوز تحالف بشارة الخوري ورياض الصلح في لبنان وكلاهما يعارضان المشروعين المذكورين(104).
أما بالنسبة للجانب الفلسطيني فعلى الرغم من أن مشروع نوري السعيد قدم على اساس انه حل للقضية الفلسطينية لكنه اهمل مطالب الفلسطينيين في اقامة دولة مستقلة لهم واعتمد على ادخال فلسطين ضمن اتحاد عربي واعترف لليهود بحكم شبه محلي, ولم يهتم كثيرا في منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين والتي كانت في تزايد متصاعد نتيجة تطورات الحرب العالمية الثانية(105), واستمر الفلسطينيون بمطالبتهم التقليدية في الاعتراف بحق العرب في الاستقلال التام وإنهاء تجربة تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين وإنهاء الانتداب البريطاني واستبداله بمعاهدة مماثلة للمعاهدة المعقودة بين بريطانيا والعراق تقوم بموجبها في فلسطين دولة عربية ذات سيادة مع وقف الهجرة اليهودية وبيع الأراضي لليهود وقفاً تاماً وسريعا(106).
ويمكن القول ان هذه المؤشرات فضلاً عن غياب قيادة وطنية فلسطينية موحدة تركت تأثيراتها في ضعف تعاطي الفلسطينيين مع هذه المشاريع بشكل كبير وغياب دورهم لانضاج فكرة الاتحاد العربي رغم انه كان يمثل فرصة واقعية لحماية بلادهم من الخطر الصهيوني.