القراءة ليست هواية
علي محمد حسن حسين
في مجتمع اليوم، وخاصة بين أقراننا الشباب، تتلاشى الحدود بين المعرفة والهوى، بين ما نقرأ لأننا نحب وما نقرأ لأننا نحتاج. أصبح الكثيرون يرون القراءة وكأنها هواية، مثل مشاهدة الأفلام أو إنهاء لعبة فيديو. قد يتحدث شخص عن رواية قرأها بشغف، ولكنه في نفس الجلسة يعتذر عندما تثار قضية دينية أو فلسفية قائلاً: “أنا لا أقرأ في هذا المجال”، أو “الدين ليس من اهتماماتي”، أو “ما علاقة الفلسفة بما أفعله؟”.
ما الذي جعل هذا التراجع في الفكر؟ كيف يمكن أن نفصل بين هذه الموضوعات وندعي أننا قراء؟ إذا كنت غير متعمق في الدين، فكيف تعتنق معتقدات دينية؟ وإذا لم تهتم بالفلسفة، كيف تسعى لفهم العالم أو البحث عن الحقيقة؟ وإن كنت ترى أن علم النفس لا يمت بصلة لمجال الهندسة، فكيف تحكم على دوافعك وتتحكم في رغباتك أو ترى الأمور بشكل متزن؟
القراءة ليست هواية مثل إنهاء فيلم أو متابعة سلسلة. إنها ليست نشاطًا ترفيهيًا فقط؛ بل هي تجربة فكرية شاملة، تتطلب منك أن تتجاوز راحتك وتبحر في مياه مواضيع غير مألوفة. القراءة ليست مجرد استهلاك للمعلومات، بل هي فعل نقدي. إذا كنت تقرأ فقط ما تحب أو ما يوافق معتقداتك، فأنت لا تمارس القراءة بمعناها العميق.
القارئ الحقيقي هو الذي يعتنق كل المجالات، حتى لو بسطحية أولية. هو من يأخذ “قشرة من كل حبة”، سواء كانت ناضجة أو غير ناضجة، جيدة أو رديئة، لذيذة أو مقرفة. إن قراءة ما تحب وحده لا يغني فكرك ولا يفتح أمامك آفاقًا جديدة. بل على العكس، تجعلك محصورًا في دائرة ضيقة من الأفكار.
القراءة ليست مريحة دائمًا؛ في الحقيقة، يجب أن تكون مؤلمة أحيانًا. القراءة الحقيقية هي التي تجعلك تعيد النظر في ما كنت تعتبره مسلمات، وتفكر بعمق في مفاهيم لم تخطر ببالك من قبل. يجب أن تكون تجربة القراءة مثل زلزال داخلي يهز أسس أفكارك وقيمك، فتخرج منها وقد تغيرت نظرتك للعالم.
القارئ الفعلي لا يخشى الخروج من منطقة الراحة. إنه يقرأ الكتب التي تتعارض مع قناعاته بقدر ما يقرأ الكتب التي تدعمها. يواجه الأفكار التي تهزه من الداخل، التي تجعله يسأل نفسه: “هل كنت مخطئًا طوال هذا الوقت؟”. القراءة ليست مجرد تسلية، إنها مواجهة.
إن الفهم العميق للعالم لا يأتي من التخصص في مجال واحد فقط. العالم متشابك، والمعرفة متعددة الأوجه. كل علم يؤثر على الآخر ويتقاطع معه. الفلسفة، الدين، العلم، السياسة، النفس — كلها تؤثر في بعضها البعض وتتشابك لتشكل الفهم الشامل للحياة. القارئ الذي يركز فقط على مجال واحد يغلق على نفسه أبوابًا عديدة للفهم.
فالفيلسوف لا يمكن أن يكون فيلسوفًا حقيقيًا إذا لم يكن لديه وعي بالدين أو السياسة أو العلوم الإنسانية. والمهندس لا يستطيع أن يبني ما هو مفيد حقًا للبشرية إذا لم يكن على دراية بعلوم النفس والاجتماع. كل علم يحتاج إلى الآخر كي يكتمل.
القراءة هي عملية بناء الهوية الشخصية والفكرية. ليست مجرد وسيلة لملء الوقت أو اكتساب بعض المعلومات السطحية. القارئ الحقيقي يسعى من خلال قراءاته إلى فهم ذاته وفهم الآخرين، ويكتشف من خلال تلك الرحلة الأفكار التي تشكل كيانه، وتلك التي يتعين عليه تحديها.
في نهاية المطاف، القراءة ليست مجرد إضافة للمعرفة؛ إنها فعل تحويل. كل كتاب نقرؤه يعيد تشكيل جزء من هويتنا، ويدعونا إلى النظر إلى أنفسنا والعالم من زاوية جديدة. لهذا السبب، لا يمكن للقراءة أن تكون مجرد هواية، فهي مسؤولية تجاه الذات والآخرين.
في مواجهة السطحية
في عالم اليوم، حيث تهيمن وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، نحن معرضون أكثر من أي وقت مضى للسطحية. المحتوى السريع والملخصات الموجزة قد تعطينا انطباعًا بأننا نعرف شيئًا عن كل شيء، ولكن في الحقيقة نحن نتحرك على السطح فقط. القراءة العميقة، التأملية، هي التي تحمينا من هذا الانجراف نحو السطحية.
القارئ الذي يقرأ بدافع الفضول وليس بدافع الرغبة في التفاخر، هو الذي يستطيع أن يميز بين المعرفة الحقيقية والمعرفة الزائفة. هو الذي يستطيع أن يقف في مواجهة الزمن الرقمي السريع ويقول: “أنا أحتاج إلى وقتي للتفكير، للتأمل، للتفاعل بعمق مع ما أقرأ”.
القراءة ليست هواية، بل هي فعلٌ ثوري يتحدى الركود الفكري. إنها ليست مجرد نشاط لملء الفراغات، بل هي وسيلة لاكتشاف الذات والعالم. يجب أن نقرأ ما يزعجنا بقدر ما نقرأ ما يسعدنا، وما يتحدى أفكارنا بقدر ما يتفق معها.
القارئ الحقيقي يوسع آفاقه باستمرار، يرفض أن يبقى محصورًا في مجالات ضيقة من المعرفة. إنه يدرك أن كل مجال معرفي يحمل في طياته فهماً مختلفاً للحياة. القراءة هي رحلة دائمة نحو الوعي، وهي مسؤولية تتطلب منا أن نتعامل معها بكل جدية واحترام.
القراءة ليست اختيارًا، إنها حاجة جوهرية لوجودنا الفكري والإنساني.