يتذكر شباب سبعينيات القرن الراحل اسم فرانز فانون الكاتب والمناضل والفيلسوف الذي ظلت أفكاره في الثورة و»العنف الثوري» ماثلة في أذهانهم، وقد أصبحت اليوم مصدرا ثرا للباحثين في ثيمة «الكفاح المسلح» كوسيلة لتغيير المجتمعات الرازحة تحت نير الظلم والاضطهاد العنصري.
وفانون الذي يوصف بأنه «زنجي أسود» ولد في جزر المارتنيك في البحر الكاريبي، وتشرب الثقافة الفرنسية، وعرف بتعدد هوياته فهو فرنسي الجنسية، جزائري الهوى، أفريقي النزعة، عالمي التوجه، لكن هويته التي أرادها لنفسه هي هوية المناضل من أجل بناء عالم خال من الاستغلال والتبعية، وقد وجد نفسه معنيا بالدفاع عن قضايا المضطهدين بعد تجربته المرة التي عاشها في ظل بحثه عن هويته، وعندما حمل الجنسية الفرنسية لم يخطر في باله أن لونه سوف يقيده، مراهنا على رصيده المعرفي والثقافي متوقعا أن يخدمه هذا الرصيد في أن يأخذ مكانه في مجتمع متعدد الألوان كما توهم، لكنه اكتشف الحقيقة عندما أصبح جنديا في الجيش ثم دارسا للطب، وكان شاهدا على الممارسات العنصرية ضد السود، حيث ينظر المواطن الأبيض الى صنوه الأسود على أنه مواطن من الدرجة الثانية، هذا الاكتشاف دفعه الى الهجرة الى الجزائر حيث عثر هناك على هويته «العالمية»، ليعمل طبيبا ثم كادرا ناشطا في صفوف الثورة الجزائرية.
لم ينس فانون أن يؤرخ للعنصرية الأوروبية التي لاحقته كما لاحقت غيره في كتابه «بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء» بعد ما أدرك «أن الصمت خيانة» و»ان الأوروبيين الذين يتحدثون عن الإنسانية ينكرون على السود وعلى أبناء مستعمراتهم حقوقهم كبشر»، وفي هذا المنعطف أيضا نشر كتابه الآخر «معذبو الأرض» الذي اعتبر انجيل الثورة العالمية التي سوف تعيد هيكلة العالم كي يكون أكثر عدلا ونزاهة، وفيه أطلق مقولته اللافتة: «لم يترك لنا الاستعمار سوى هذا الخيار، اما أن نسلك طريق العنف الثوري واما أن نموت واحدا بعد الآخر على أيدي جلادينا السابقين».
فكر طوباوي
وإذا كان البعض قد وجد في طروحات فانون نوعا من الفكر الطوباوي فقد تدارك فانون ذلك بتأكيده على أن العنف المطلوب هو ليس «عنفا وحشيا» كذاك الذي يفعله المستعمر انما هو «عنف مسالم» يعتمد إرساء العدل كنوع من أنواع التطهير للفرد وللمجتمع، ويتقاطع مع كل ما يجعل المرء يحيا في رفاه وازدهار، لكنه حذر من أن تكون استجابة الحكام لبعض الاحتجاجات المطلبية كالحصول على أجور أفضل أو تمثيل في المجالس البلدية أو توفير هامش لحرية الصحافة بديلا عن تحرير الأرض.
انتبه فانون الى ما يمكن أن يفعله الجهل لدى شرائح واسعة من مواطني المستعمرات، وخلص الى ضرورة احياء الوعي لدى تلك الشرائح على الحال التي سببها المستعمر لها، ودفعها للمشاركة في العمل الكفاحي لإنجاز التغيير المطلوب لأن التغيير لا يأتي هبة من السماء، ولا يمكن للفقراء المضطهدين أن يضمنوا حياتهم الا على جثث مضطهديهم.
وتكتمل أطروحة داعية «العنف الثوري» بإشارته الى دور الطبقة العاملة في الدول الاستعمارية التي قال انها فقدت ثوريتها وباتت تنعم بثمرة كدح عمال المستعمرات، وأصبحت شريكة في الامتيازات التي توفرها حكوماتها التي تمارس عمليات نهب واضطهاد أبناء البلدان الأخرى، ودعا الى ايقاظ الحافز الإنساني لديها بما يجعلها تتخلى عن نظرتها العنصرية تجاه شريحة مواطنيها السود الذين يعانون من التمييز، فيما نظر الى الطبقة الفلاحية على أنها «الطبقة الأكثر ثورية اذ هي لا تملك ما تخسره»، مستمدا نظرته هذه من رصده لتجربة المستعمرات الافريقية.
ومن رصده هذا اكتشف أن الأحزاب الممثلة للبرجوازية الوطنية التي تسلمت السلطة بعد جلاء المستعمر سرعان ما استعارت عقلية المستعمر نفسه، وسعت لبسط سيطرتها على المال والقرار ولم تفكر في التخطيط لنهضة وطنية شاملة انما لجأت لاستخدام وسائل العنف للدفاع عن بقائها في الحكم، حتى حولت حلم « الوحدة الأفريقية» الى نوع من التعصب العرقي.
وعن دور المثقفين في التغيير يقول فانون ان المهم ليس هو تحرير الأرض فحسب، لأن تحرير الأرض لا يكتمل الا بتحرير العقول أيضا، و»العمل الفكري ضرورة وليس ترفا، وربطه بالعمل المسلح ضروري وواجب إذا ما أردنا تغيير العالم.
فرانز فانون ما يزال في البال بعد أكثر من ستة عقود على رحيله لكن أفكاره فقدت بعضا من سحرها وبهائها، ولم يعد «العنف الثوري» الطريق الوحيد لتغيير المجتمعات، لأن مياها جرت في أكثر من اتجاه خلقت مسالك متعددة جديدة للتغيير وبما يتفق مع خصوصية كل بلد.