بين الإنتصار الإلهي والهزيمة القهرية
قراءة نقدية لثقافة الإنكار المريح في الخطاب العربي
أورنيلا سكر
منذ فجر التاريخ الإسلامي، لم يكن العقل العربي ليغفل عن مفهومي الكرامة والتفوق الإلهي، اللذين شكلّا أساسًا راسخًا لفهمه للوجود والمصير. ولكن، مع مرور الزمن، وتعرض العالم العربي لواقع مرير من الهزائم العسكرية والسياسية، كانت تلك المفاهيم الكبرى تصطدم بجدران صلبة من الفشل وعقدة النقص في مواجهته للخطاب الإستشراقي وقوى الاستعمار التي اجتاحت الأراضي العربية، ثم مواجهة المشروع الاستعماري الغربي الذي تجسد في الاستعمار الأوروبي والصراع المزمن مع إسرائيل، التي كانت تمثل تحديات قاسية هزّت الأسس الفكرية للعقل العربي. وبينما يواجه هذا العقل إشكالية الحفاظ على هوية ثقافية ودينية تحت وطأة هذه الهزائم، يظل أحد أكبر المعضلات التي تؤرق الفكر العربي هو «ثقافة الإنكارالمريح».
ثقافة الإنكار، التي تتجسد في رفض الاعتراف بالهزيمة أو الفشل، ليست مجرد رد فعل نفسي فردي، بل هي جزء من بنية عقلية جماعية أوسع. إنها أسلوب تكيفٍ جماعي مع الهزائم الكبرى في تاريخ الأمة، محاولات دائمة لدرء الواقع المؤلم والمضي قدمًا، رغم الندوب التي تركتها الهزائم في الذاكرة الجمعيّة. ومع ذلك، تبرز تساؤلات محورية: هل يمكن للإنكار أن يكون أداة لحماية الهوية أمام التهديدات الداخلية والخارجية؟ أم أن هذه الثقافة تَحول دون التطور والتقدم، وتُبقي المجتمع العربي في دائرة من الهروب والخوف من الحقيقة؟
معارك ميدانية
إذا نظرنا إلى مفهوم النصر في الخطاب العربي والإسلامي، نلاحظ أن النصر لم يُحدَّد فقط في سياقات المعارك الميدانية، بل كان يُعتبر تجسيدًا للقيم الإيمانية العليا، وهو ما رسخه الخطاب الديني منذ بداية الفتوحات الإسلامية. كانت الهزيمة، من وجهة نظر إسلامية، تُحاط بتفسيرات روحانية، حيث كان يُنظر إليها في الغالب على أنها ابتلاء إلهي، اختبار من الله للمؤمنين. هذه النظرة ساعدت في تشكيل نوع من الإنكار للواقع، إذ كان من الأسهل تفسير الهزائم على أنها محض اختبار إيماني بدلًا من الاعتراف بالأسباب الاستراتيجية والعسكرية الحقيقية وراءها ، فضلاً إلى اخذها في أبعاد أخرى مرتبطة بالمؤامرة العالمية والخيانة الداخلية ، وهذا واقع الحال حين نسمع كثير من التعابير الملصقة بالعمالة والصهيوني التي تبرز في الخطاب العربي-الاسلامي للتعبير عن الانكار والهزيمة الداخلية التي اشار اليها المؤرخ الفلسطيني محمود ياسين في كتابه « الهزيمة والإديولوجيا المهزومة «.إن هذا التفكير يطمس الوعي النقدي لدى الناس ويجعلهم يعتقدون أن الهزيمة لا يمكن تفاديها أو التكيف معها، مما يرسخ القبول بالواقع المرير دون سعي للتغيير أو التحسين. وبالتالي، إن التاريخ الاسلامي حافل بوقائع تحاكي هذا الإنكار المريح بدءاً من واقعة الاحزاب او يعرف بحادثة الخندق والتي تعبر خير تعبير عن غياب الاستراتيجيات والافق البعيدة في مواجهة التحديات المستقبلية الامر الذي مكنهم من الهزيمة المضوية اما م العدو فضلا الى حادثة 8 اكتوبر او ما يعرف بجبهة الاسناد مع غزة من قبل حزب الله حيث مني الحزب بهزيمة مدوية من خلال حادثة البيجر التي لم يكن يتوقعها الحزب وهذا مؤشر على طبيعة الإخفاق الداخلي الخاص بالذات والعقل الاسلامي الإستسلامي القائم على ثقافة التوكيل بالله والابتلاءات الإلهية وتبريره هذا النقص بحفظ الكرامة والهوية الوطنية فضلا ً إلى اشكالية في بالغ الخطورة فقدان حس المساءلة ومحاسبة الجلاد حيث يتساوى الجلاد بالضحية دون التميز بينهما بفعل الانظنة السياسية القمعية والفاسدة التي تقوم على فكرة تأليه الشخصيات وتقديسها فضلا الى ان المقاومة في العالم العربي اثبتت التجارب التاريخية والسياسية انها فكرة هجينة وحالمة ومعنوية لتبرير الهزائم التاريخية والفكرية امام العدو الغربي والتحولات العالمية وعجزهم عن تخطي هذا الواقع من خلال ايجاد استراتيجيات فعالة يواجهون بها الاستعمار الغربي خطابهم الاستعلائيي الذي يصفهم بالهمجيين والمتخلفين بفعل سياساتهم الاستراتيجية الفاشلة والقاصرة القائمة على اسس التبرير الديني لا العقلاني بحسب، توصيف عدد كبير من المستشرقين .
بقول المستشرق جون ديمنغ- أصول الاسلام : « أنه «الإسلام دين متخلف ينظر إلى الإنسان على أنه تابع لله تمامًا، ويفرض عليه انضباطًا صارمًا يعوق أي تطور في التفكير الحر أو الإبداع» هذا هو السبب في سقوط الاندلس عام 1492، كان نتيجة لتكتيك سياسي وإستراتيجي دقيق من قبل القوى الأوروبية، إلا أن بعض الخطابات الإسلامية ظلت تراوغ في تفسير تلك الهزيمة، مبررة بالظروف الاجتماعية أو المشكلات الداخلية.
الوجود العثماني والعلاقات مع أوروبا: كان هناك دائمًا إنكار داخل العالم الإسلامي لضعف الإمبراطورية العثمانية أمام القوى الأوروبية الصاعدة، لا سيما في القرن التاسع عشر. عندما بدأت القوى الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا في توسيع نفوذها الاستعماري، كان يُنظر إلى الهزائم العثمانية كأزمات عابرة، بينما كان يُعزى الفشل إلى عوامل «غير إسلامية» أو «داخلية»، مثل فساد الحكام أو ظهور قوى معارضة في الداخل نتيجة اخفاقات داخلية لم يحسن الحكم العثماني التعامل معها بمرونة الى حين فرض عصر الاصلاحات على السلطنة وهي صاغرة من الغرب الاستعماري بحجة التحديث والتطور لاحقاً.
ففي حرب 1948، أي النكبة عندما خسرت الدول العربية أمام الدولة الإسرائيلية الجديدة، كانت هناك ردود فعل شعبية وسياسية متباينة. بينما كان هناك اعتراف تدريجي بحجم الهزيمة على مستوى النخب السياسية، فإن قطاعًا كبيرًا من الشعوب العربية ظل في حالة إنكار. كانت النخب السياسية تروج لفكرة أن الهزيمة لم تكن ناتجة عن قلة القوة العسكرية أو التخطيط العسكري الفاشل، بل كان السبب «مؤامرة دولية» من الغرب ضد العالم العربي، مع إلقاء اللوم على «الخيانة» الداخلية من بعض الزعامات..
تفوق عسكري
حروب 1967 و1973 بعد الهزيمة في حرب 1967، طغت على الخطاب العربي ثقافة الإنكار والمكابرة، حيث حاولت النخب السياسية تبرير الهزيمة على أساس التفوق العسكري الإسرائيلي أو التواطؤ الغربي. ورغم أن حرب أكتوبر 1973 قدمت بعض المكاسب العسكرية المحدودة، فإن الشعوب العربية لم تكن قد تغلبت بعد على أزمة الهزيمة النفسية والثقافية..
على المستوى العربي، كانت الهزائم تتحول إلى مواقف دفاعية قوية في الخطاب السياسي. فالتاريخ العربي مليء بالحروب التي لم تُحسم لصالحه، مثل الحروب ضد الاستعمار الأوروبي أو الحروب مع إسرائيل، ورغم فداحة الهزيمة في كثير من الأحيان، كانت تُبرَّر بالصمود والمقاومة والكرامة الوطنية. هذا الخطاب كان يهدف إلى إبقاء الشعوب في حالة من الاحتفاظ بالأمل، لكن في المقابل كان يُغفل الكثير من أسباب الفشل الحقيقية، والتي تضمنت عيوبًا في التخطيط والتنفيذ وغياب الوحدة السياسية.
أما في سياق الاستعمار الغربي، فقد استخدم المفكرون الاستشراقيون هذه الثقافات للتهويل من عجز العرب عن مواجهة التحديات الخارجية. كان الاستشراق، الذي طوره المفكرون الغربيون، يتعامل مع العالم العربي والإسلامي على أنه «مجتمع متخلف» يحتاج إلى «الإصلاح» على يد الغرب. وعليه، فإن الفكر الاستعماري كان لا يقتصر على فرض الهيمنة السياسية فحسب، بل كان يتسلل إلى عقلية الشعوب المستعمَرة عبر خطاب ثقافي متعالٍ يعزز من الإحساس بالعجز.
من جهة أخرى، كان العقل العربي في صراع دائم مع هذا الخطاب الاستعماري، يحاول تصحيح صورته الذاتية، بينما يقع في فخ ثقافة الإنكار. فالنظرة إلى الهزيمة على أنها «نصر معنوي» أو «مؤامرة خارجية» كانت سائدة في ردود الفعل العربية، ما جعلها تُعاني من حالة من الانغلاق الفكري، حيث كان الإنكار يُستخدم كأداة حماية للمجتمع من الوقوع في اليأس أو التشكيك في الذات.
لكن السؤال الأعمق يظل: هل يمكن لهذا الإنكار أن يُحول إلى قوة دفع للتغيير؟ أم أنه يُقيد العقل العربي في شبكة من التبريرات التي تمنع محاكمة الذات والبحث عن حلول واقعية؟
في النهاية، ثقافة الإنكار لا تنبع فقط من مقاومة الهزائم العسكرية، بل هي محاولة دائمة للحفاظ على صورة الأمة العربية والإسلامية أمام الذات وأمام العالم. ولكن في ظل التحديات المعاصرة، هل يمكن للعقل العربي أن يتجاوز هذا الإنكار ليبني مستقبلًا يقوم على النقد الذاتي والتعلم من التاريخ؟ هل ننتصر فعلاً عندما نرفض الاعتراف بالهزيمة، أم أننا ببساطة نُبقي أنفسنا في حالة دائمة من الهروب من الواقع؟