كلام أبيض
خطوة لترطيب المزاج
جليل وادي
لا أنظر للسياحة من منظور اقتصادي بوصفها مصدرا لا يستهان به لميزانية الدولة، برغم ان العديد من البلدان وضعت المردود المالي في مقدمة أولوياتها، وصارت تستحدث لذلك المشاريع السياحية اللافتة، وتوفر لزائريها البيئة المريحة، وأعرف ان تفعيل السياحة في بلادنا سيشكل دخلا ليس بأقل مما تدره الثروات التي تتوافر عليها البلاد باستثناء النفط، فضلا عن تشغيل الأيادي العاملة التي تقاسي البطالة.
لا أنظر لهذا الجانب فقط على الرغم من أهميته القصوى، بل أرى ان السياحة تسهم بفاعلية في التخفيف من حدة التطرف بمختلف أشكاله، ذلك ان المناطق المعزولة عن العالم تتصف بتطرفها الشديد سواء في عاداتها الاجتماعية او في جوانبها الفكرية او قيمها الثقافية، وقد عانى العراق في عقوده الأخيرة بدءا من الحرب العراقية الايرانية وحتى الآن من عزلة غير مسبوقة فرضتها ظروف سياسية وأمنية، الأمر الذي انعدم معه التفاعل الثقافي مع المجتمعات الأخرى، ما جعله متقوقعا على نفسه، غير قادر على تمثل قيم ثقافية جديدة، وغير عارف بثقافات الشعوب الأخرى عبر التفاعل الواقعي، وليس بحسب ما يراه على شاشات الفضائيات او في المواقع الالكترونية، وهكذا تفاعل يزعزع عادات وتقاليد وقيم بالية، لكنها راسخة في منظومته الثقافية، بالمقابل حرمت العزلة العراق من تعريف المجتمعات الأخرى بموروثه الحضاري والتاريخي، حتى ان الكثير من تلك المجتمعات باتت لا تعرف العراق، ولا تميّزه عن ايران أحيانا، واتسع جهلهم مع ضعف قدراتنا الاعلامية في الوصول لها، مع ان العراق زاخر بأنواع هذا الموروث الذي تحسدنا عليه الدنيا بأجمعها.
ليس هذا فحسب، بل ان السياحة تسهم في ترطيب المزاج الاجتماعي المتشنج، ذلك ان مجتمعنا وبسبب ظروف قاسية تعرض لها على مدى أربعة عقود تعكر مزاجه، وأصبح الانفعال سمة ظاهرة لشخصيته، واذا أضفنا لها عوامل المناخ تغدو غير مقبولة قياسا بحالة الاسترخاء التي تطبع خصائص المجتمعات الأخرى، فهي شخصية عصبية على الدوام، غير متسامحة في أبسط الأمور، حدود التحمل والصبر ضيقة، يسود الصراع على سلوكها قياسا بالتعاون والتنافس، كحال أسرة محبوسة في البيت، ولم يحدث أن خرجت منه للتنفيس عما يعتريها من توترات وانفعالات وضيق وملل من تكرار يومها، ويزداد الأمر سوءا بقلة قنوات التسلية والترفيه كالمسارح وقاعات العروض الموسيقية والمتنزهات الراقية وغيرها، لا سيما العنصر النسوي فيها، لذا فلا غرابة أن يدمن شبابها على مواقع التواصل الاجتماعي والكوفيات بوصفهما متنفسين وحيدين.
تتيح السياحة للحرية الاجتماعية فضاء واسعا في الممارسة، فمع ان تجربتنا السياسية أريد بها توسيع مساحة الحريات للأفراد والجماعات، الا انها أولت الحرية السياسية المساحة الأكبر من اهتمامها، بينما حجّمت الحريات الاجتماعية التي لا تقل أهمية عن سابقتها، وجاء ذلك بسبب انفلات جماعات لا تحترم القانون وغير مؤمنة بالدولة المدنية لتعمم رؤيتها وتطبقها على أفراد المجتمع قسرا على مدى العقدين الماضيين، بينما غاب دور الحكومات المتعاقبة ايمانا منها بطروحات تلك الجماعات، او تحاشيا من التصادم معها، او تعذر التصدي لطروحات صادرة عن شخصيات ثقيلة، والا ما معنى أن تنتقد شخصية دينية نفترض استنارتها حضور عوائل او فتيات الى ملاعب كرة القدم، أليس ذلك حقا، بماذا يختلفن عن الشباب الذكور، اليس من واجبه حث الجميع على الاهتمام بهن واعطائهن فرصة الاستمتاع معهم بهذه اللعبة ؟، او على أقل تقدير دعوة منظمي المباريات الى تخصيص مقاعد للعوائل، ولذلك فالانفتاح السياحي على العالم يمكنه تذويب العادات والتقاليد البالية في ثقافتنا السائدة، ويقلل من الانتقادات والاعتراضات على سلوكيات شبابنا التي لا نرى في كثيرها تعارضا حاسما مع قيمنا الأصيلة.
يأتي كلامي هذا في سياق رغبة الحكومة باتخاذ بغداد عاصمة للسياحة العربية التي بدأتها بدعوة رئيس الوزراء السوداني لرئيس المنظمة العربية للسياحة بندر بن فهد لزيارة بغداد ومناقشة هذا الأمر، وطرحه في اجتماع وزراء السياحة العرب الذي سيعقد في القاهرة الشهر المقبل .
jwhj1963@yahoo.com