أذن وعين
بحثاً عن ذئب (أمعط)
عبد اللطيف السعدون
أعرفه «هاوي سياسة» تقلب في قناعاته على مدى ثلثي عمره، متنقلا بين «الأيديولوجيات» يمينا ويسارا، انتظم، وهو طالب، في «المقاومة الشعبية» التي أنشأها الشيوعيون زمن قاسم، واستدار نحو «الحرس القومي» في جمهورية البعث الأولى، وبعد انحسار ظل البعثيين أصبح ناصريا ربما أكثر ناصرية من ناصر نفسه، وفي جمهورية البعث الثانية تسنم موقعا قياديا في «الجيش الشعبي»، وما لبث أن أحال نفسه على التقاعد سياسيا بعد الاحتلال، وانزوى في بيته وهجر كل قناعاته السالفة، وشرع يبشر في خلوته بما يسميه «نظرية الذئب الأمعط» التي يقول انها النظرية العملية الوحيدة التي تصلح لحكم العراق والعراقيين، ويستند صاحبنا في نظريته الى الصفات الكثيرة التي يسبغها المخيال الشعبي العراقي على الذئب «الأمعط» والتي تصل حد التناقض والاختلاف بين صفة وأخرى لكنها كلها تمنحه الجاذبية وتوفر له الهيبة بين بني قومه، فهو الشجاع المقدام الحذر، الشرس واليقظ والمحنك، والمراوغ والمتنمر الذي يعرف كيف تؤكل الكتف، وهو الذي يتصيد ضحاياه بعناية، كما هو الذي لا يخرج على عادات سلالته، ويمحض اهله الود والايثار، ولا يسمح لغريب أن يمد رجله في أرضهم.
حلول لمشكلات
وكثيرا ما كان صاحبنا يروج لنظريته تلك موضحا أن العراقيين منذ أكثر من عشرين عاما وهم يبحثون عن حلول لمشكلاتهم لكن الحكومات التي توافق عليها الأميركيون والايرانيون عجزت عن ذلك، وكل الذين حكموا كانوا يبحثون عن تطمين مصالحهم الخاصة، وكانت الحصيلة سقوط مئات آلاف القتلى والجرحى في أعمال عنف، واغتيالات، وعمليات ارهابية في أكبر كارثة بشرية شهدها القرن الجديد، ودعك من حصيلتها على مستوى خراب العراق اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وشيوع ظواهر الفساد والافساد والسقوط الاخلاقي، وتحول البلاد الى دويلات طوائف وبروز الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، كل هذ جعل العراقيين يبحثون عن ذئب «أمعط» يحكمهم بالعدل والقسطاس، ويوفر لهم الأمن والأمان والعيش الرغيد الذي يطمحون له، ويحميهم من عاديات الدهر وغوائل الزمان التي أحاطت بهم في غفلة، ويعيد لهم هيبة بلادهم، ويقارع أعداءهم، ويعينهم على تقرير مصائرهم، والحصول على حقوقهم، وقد جربوا الوصفة «الديمقراطية» التي جاء بها الأميركيون، كما اختبروا مواقف وتوجهات رجال الطبقة السياسية الذين حكموا البلاد على امتداد السنين العجاف التي أعقبت الغزو فما وجدوا من ينقذهم من بلواهم، أو يشد من أزرهم، او في أقل تقدير، من ينسحب من الميدان تاركا المجال لغيره بعدما أدرك أنه فشل في مهمته، أو أن جيبه قد امتلأ بالمال فما عاد يحتاج لدينار واحد الى نهاية القرن!
سألته مرة: من يضمن أن لا يتحول «الذئب الأمعط» وسط هذا الخراب الى ديكتاتور مستبد؟
أجاب: ليكن كذلك شرط أن يكون عادلا بين الأبعدين والأقربين، والعاجز وحده هو الذي لا يستبد، وان بلدا مثل العراق بتكويناته ومكوناته التاريخية والجغرافية، وتركيبته السكانية الفسيفسائية لا يمكن أن يسوسه في حاله الحاضر سوى ذئب أمعط!
نظام ديمقراطي
قلت: الا يستحق العراقيون نظاما ديمقراطيا تنويريا يقيم عملية سياسية وطنية، ويؤسس لسلطة العقل، ويحترم الرأي الآخر، ويحتكم الى الصناديق في تقرير مصائر الناس؟
قال: العراقيون يستحقون أكثر من ذلك، لكن ليس كل ما يتمنونه يدركونه، أما أنتم، معشر الكتاب، تحاولون اغراق عقولنا بالنظريات والأحلام، لقد جربنا منذ زوال عهد الملوك حكاما تغنوا بالديمقراطية وحقوق الانسان وحريته المزعومة في التنظير والتدبير والتغيير، وباستثناء فترات «ربيعية» قصيرة لم نلمس شيئا مما قالوا به ونظروا له، دعونا اذن نبحث عن ذئب أمعط يقيم بيننا سنة أو سنتين، لنسمها «فترة انتقالية» يعيد فيها الى الانسان العراقي ما سلب منه من حقوق، وثروات، والأهم من ذلك يعيد له ايمانه بالحياة الكريمة التي افتقدها منذ عقود!
سألته أخيرا: كيف يرى المستقبل، رد علي: «كل شيء في بلادنا باق على حاله، خراب ودمار وفساد ومهانة، ونحن في انتظار الأسوء، ولا أحد يمكنه حكم العراق سوى ذئب أمعط، لكن الذئب الأمعط لم يجيء بعد»!