يوميات الحرب في لبنان (4)
لا تسرقوا فيروز من صباحاتنا
غفران حداد
قبل بدء حرب العدو الإسرائيلي في شهر أيلول الماضي بغارات جوية شبه يومية على العاصمة بيروت وضواحيها، والمواجهات المتبادلة في الجنوب منذ أكثر من عام بين عناصر حزب الله والعدو ، كان البرنامج اليومي الصباحي لمعظم المحطات الفضائية اللبنانية فقرة من أغاني الصباح لأرزة لبنان الشامخة ، فيروز ، التي ارتبطت اغانيها بطقوسنا الصباحية فلا يحلو لنا ارتشاف فنجان القهوة الا على صدى أغانيها ، «ع هدير البوسطة .. ال كانت ناقلتنا/من ضيعة حملايا .. لضيعة تنورين/تذكرتك يا عليا .. وتذكرت عيونك/يخرب بيت عيونك يا.. عليا شو حلوين»، كل صباح اغني معها وانا احضر ركَوة القهوة في المطبخ ، حين لم يكن البال مشغولاً بوجود الحرب ،و حين لم يكن ايضا هنالك خوف ان يأتي الليل برفقة أزيز الغارات ، صباحاتنا اليوم تغيرت ، أصبح البث المباشر للمراسلون وهم ينقلون مآسي و أحزان الحرب هو البرنامج الثابت ، أصبحت لقطات نقل الشهداء والجرحى عبر سيارات الإسعاف ومناظر دمار الممتلكات هي الثابتة ايضا، لم تعد الحبيبة ترسل لحبيبها في الصباح « سألتك حبيبي لوين رايحين خلينا خلينا و تسبقنا سنين» لم تعد تطالبه بموعد قريب ليوم خطبتهما، فكل شيء مؤجل حتى إشعار آخر، فهو نازح مثلها في مدرسة لإيواء النازحين ، ينتظران المستقبل المجهول ، لم تعد صباحاتنا تبدأ بدعوة صديقتي المقيمة في إحدى مناطق ضاحية بيروت لتشاركني صباحي وقهوتي في شرفة المنزل ، بل أصبحت تهديدات أفخاي أدرعي الناطق الرسمي باسم الجيش للعدو الصهيوني بإخلاء المكان هنا أو هناك لأنه سيتم قصفه خلال ساعات، لتحلّ الرسائل النصية المرسلة وتنبيهها بهذه الأخبار ان لم تكن على علمٍ بها بدل دعوتها للمشاركة في احاديث الصباح وفنجان قهوة .
شمس لا تغيب
أغاني فيروز الصباحية تلك الشمس التي تُشرِقُ كلّ صباحٍ ولا تغيب، كيف لها ان تغيب خلف غيمات دخان الغارات؟ ولا نستمع لأغانيها العاطفية ونستمع بدلا عنها بعض اغانيها الوطنية «بحبك يا لبنان يا وطني بحبك
بشمالك، بجنوبك، بسهلك بحبك» ،فيروز لم تتوقف عن عشق لبنان ، فكيف تجبروننا أن نغيّر طقوس وتقاليد صباحاتنا بدونها؟
فيروز التي قال عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «فيروز هي الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر، هي التي تجعل الصحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر» ، كيف نُجبر ان نتغاضى عن سماع فيروز في الصباح وهي لم تنسانا يوماً ، يأتي الينا صوتها الملائكي القادم من السماء وهي تشدو “لبيروت ...من قلبي سلام لبيروت ”، فكيف يمكن أن تولد صباحات الحرب من دون صوتها.
علاقة متشابكة
علاقتي مع أغاني فيروز علاقة متشابكة الأضلاع، فهي تثير في نفسي الكثير من الذكريات الجميلة، أذكرها بحنينٍ كبير في صباحات الأعياد، وصور أمّي الراحلة تتراقص في مخيلتي وهي تصنع «كليجة العيد « بالجوز والتمر على صوت فيروز، اذكرها كلما ركبت باص رقم 24 وانا ذاهبة الى مقر عملي في شارع الحمرا وتدمع عيناي حين تنقلني اغانيها من بيروت الى بغداد و منطقة الجادرية عبر أثير مذياع باص نقل الطلبة داخل الحرم الجامعي حيث درست السنوات الأخيرة بكلية الإعلام- جامعة بغداد هناك ، أغانيها التي كانت تتداخل مع ثرثرة الطلبة، هذا يحمل همّ الإمتحان ، وتلك تخرج مرآتها الصغيرة بحذرٍ وخجل لكيلا يراها احد وهي تخرج قلم أحمر شفاهها من الحقيبة لتصحيح مكياجها، وانا ومثلي كثيرون نحلق مع أغاني فيروز ونحن نتأمل من النافذة الأشجار المزروعة على ضفتي الشارع الداخلي المؤدي للجامعة.
يآه ما أحلاها تلك الذكريات، في بلدي الأم ، أعيديو بث الاغاني العاطفية لفيروز كل صباح، فهي تذكرنا بأيّام الآحاد حين اجتماع العائلة المعتاد في البيت الكبير قبل ان تفرقنا الحرب ، واصبح القريبون والبعيدون، نازحٌ ، هنا وهناك، وصار كل مغترب عن وطنه يسأل قريبه النازح في بيروت وصّور وبعلبك والشيّاح وحارة حريك بمطلع اغنيتها « احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي» فتهرب من كل واحد فيهم الكلمات في وصف ملامح عمران وشوارع لبنان الجديد في ظل الحرب ، العيون خائفة ، وخطوط التجاعيد ظهرت في أرواحنا بشكل مبكر ، كل يوم نكبر عام وربما أعوام ، أعيديو الينا بث اغاني فيروز في كل صباح ، فتلك الدقائق الوحيدة التي تأخذنا دائماً إلى الأشياء الجميلة التي ذهبت وقد لا تعود.