همسات ساخنة.. وومضات هادئة
سارق الوقت والصحة والمال يستغفلُنا
لويس إقليمس
لستُ بصدد التجنّي أو تجاهل ما للتكنلوجيا المعاصرة من فائدة وتطوّر وتغيير في حياة الإنسان الباحث دومًا عن أية مستجدّات أو تقنيات تذهبُ بخياله وكيانه وطموحاته إلى أعالي النجوم ووراء الشموس والأقمار من منطلق إيجابي بحت يعود بالفائدة في نهاية المطاف. هناك مَن يتباهى اليوم بالحصول على أرقى الوسائل وأدوات الاتصال التي تقدمها كبرى الشركات وأرقى العقول البشرية التي تستثمر في مثل هذه الابتكارات التي لا تعرف الحدود ولا الخيال ليس من أجل تقديم الأفضل والأحدث فحسب، بل سعيًا ولهاثًا وراء مكاسب مادية وتحقيق أرباح كبيرة على حساب المستهلك دومًا الذي تغرّه هذه التقنيات لأسباب متباينة في الغرض والهدف والوسيلة والنتيجة في نهاية الحال مهما كانت سلبيةً أم إيجابية. تقودني هذه المقدمة بطبيعة الحال، نحو ما لهذه الوسائل من فائدة في بعض أوجهها، ومن مضار وتأثيرات سلبية في جانبٍ آخر.
وهذا ما أقصدُه فيما وصلتْ إليه التقنية الحديثة في تقديم الأحدث من أجهزة الاتصال التي يتباهى مستخدموها وحائزوها على مدى الأيام ومن دون ملل ولا كلل في شكل تصفح مضامينها ومغرياتها الكثيرة واستخدامها لأجل الغاية الحميدة التي تم تقديم المبتكَر الجديد المتجدّد منها أو في إساءة استخدامها ممّا لا يرضى به الإنسان العاقل الذي قد يصحو يومًا ليجدَ نفسَه أمام هجمة شرسة من قبل فئاتٍ أو جماعاتٍ أو أشخاص نزعوا عنهم بقايا الغيرة والضمير والعقل والحكمة والشرف في إيقاع الأذى بغيرهم بمعرفة أو بدونها. وهنا تكمن المشكلة في صعوبة الغوص بنوايا الطرف المخالف أو المشاكس الذي يسهلُ له تبريرُ تصرفه وسلوكه إزاء الغير الصابر الراضخ في مواجهة المشكلة التي قد لا تقتصر على اختراق خصوصيات هذا الغير وهو غافل تمامًا عن شكل السلوكيات التي تتيحُها أجهزة الاتصالات الحديثة المتجددة للمخترِق. بل قد تتجاوزها للنيل منه باشكال مبتكرةٍ من الابتزاز والتهديد، لاسيّما عندما لا يلقى الغافل المستغفَل البسيط آذانًا صاغية لعلاج مشكلته أو حين تعكّزِ الجانب المبتَزّ على وسائل أو جهاتٍ تنفيذية تساندُه وتقف إلى جانبه في الدفاع عنه حينما تُكشَفُ حبائلُ أعماله غير الأخلاقية والبعيدة كلَّ البعد عن روح الإنسانية والقيم المجتمعية النبيلة. وهنا الطامة الكبرى! ولنا في بعض هذه الأحداث ما يفي بما حصلَ، ليس في بلدنا فحسب كما تابعنا ذلك في السنوات المنصرمة أو ما حصل مؤخرًا من أحداث وعمليات ابتزاز الكترونية بحق أشخاص أبرياء وعائلات محترمة، إلى جانب جرائم تنصّت غير مسوَّغة في دوائر ومؤسسات الدولة. ومن المفروض أن يأخذ القضاء العادل دورَه في محاربة هذه الظاهرة الآفة التي تنخر أسس المجتمعات الحديثة غير المحصّنة وتقوّضُ أركان العائلة وتضع البلد بحاله في حالة من اللاّاستقرار والفوضى وكأنّ البشر في غابة من الوحوش المفترسة التي لا تجيد العيش المحترم وفق قوانين الطبيعة والدساتير التي تحفظ كرامة الإنسان وتمنحه حقوقه الدنيا في العيش الكريم الآمن في مجتمعه ومدينته وبلده.
تقنيات حديثة
اختراق لحرمة العمل وراحة الأسرة
إذن، وفق ما أوردناه، يتفق معي جلُّ مستخدمي التقنيات الحديثة، ومنها تطبيقات التقنية التي تقدمها أجهزة الاتصال المبتكَرة التي تغزو العالم المعاصر بفضل التطور المتجدّد فيما تقدمه هذه من وسائل البحث والمتابعة والاستخدام والاستفادة من كلّ هذا وذاك مهما كانَ غثًّا أو سمينًا، بأن هذه الأجهزة تساهم في سرقة وقت الإنسان المستخدِم إياها، إلى جانب سرقة ماله وعقله وحريته وربما فكره أيضًا بتبنّي ما تنشره أو تقدمه من معلومات وأفكارٍ وعلومٍ وتطبيقات خارجة عن المألوف والحاجة والقدرة في بعض الأحيان. وقد بدا واضحًا كلُّ هذا في عملية سرقة الإنسان من أسرته ومن مجتمعه ايضًا بالإدمان على شكل الاستخدام المريض الذي تألفُه العائلة والمجتمع بل حتى منتسبو مؤسسات الدولة أثناء الدوام الذي يُفترَض أن يتمّ احترام ساعات العمل فيه بالكامل في الشركة أو المدرسة أو المعمل ليصبَّ في العمل والإنتاج وليس باللهو بتصفح تطبيقات الأجهزة الحديثة مثار البحث ومن دون رادع ولا ضمير ولا غيرة. فهذا بالنتيجة، من شأنه أيضًا أن يقوّضَ من إنتاجية العمل أو الموظف مهما كانت وظيفته، مهمةً إدارية أو بسيطة عاملة. والمؤسسة التي يتقاعس فيها منتسبوها بهذه الطريقة المخلّة بواجب العمل والإنتاج لا ترقى إلى مستوى الاحترام والمكافأة مقابل ما يتقاضاهٌ المنتمون إليها من أجورٍ تبقى في عداد تقييمها وفق الحرام والحلال.
وما أكثر ما تعيشُه مؤسساتُنا من أمثال هذا المستنقع العفن. فإلى جانب فصل الذهن عن واجب الإنتاج المطلوب خلال أوقات الدوام المقرَّر وفق مبدأ الحقوق والواجبات، نجد انحرافًا آخر في شكل الاستخدام غير الأمثل وسط العائلة في البيت الأسري. ومن الوارد جدًّا أن نجد كلّ فردٍ من أفراد العائلة الواحدة وهو مشغولٌ عن غيره في النهم ممّا يجده المستخدم من صور وفيديوات ومعلومات ومتابعات وأحيانًا من مماحكات وجدالات وسوء أخلاق بين المستخدمين، ما يُضعف من العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة ويجعلُ إمكانية التواصل الاجتماعي بين أفرادها أو مع غيرها في أدنى درجات التواصل. وهذا ما نسمّيه بتعرّض العائلة والمجتمعات إلى شيءٍ يُسمّى بالتباعد الاجتماعي القسري بسبب لصوصية هذا الزائر الإلكتروني الذي عرفَ كيف يسرق الإنسان من أخيه ومن أسرته ومن المجتمع، ما ألحقَ ضررًا كبيرًا في أخلاقيات المجتمعات والشعوب.
من هنا، كان لزالًا على رب الأسرة والأمّ العاقلة والمربين والمسؤولين في مؤسسات الدولة وما سواها في عموم الأعمال الحرّة أن يعوا مدى الأضرار التي قد ألحقها هذا الجهاز منن حيث يدري أو لا يدري مبتكروه. وسيبقى يفعلُ فعلتَه غير المنظمة بحق الأبناء في البيوت والطلبة في المدارس والمستخدَمين والإداريين في مواقع العمل. لكن بالمقابل، هناك من الأولويات التي يمكنها البُعد عن المعيبات في استخدام هذا الجهاز عشوائيًا، لاسيّما في الأوقات المخصصة للعمل والإنتاج ما ينبغي تاشيرُها والعمل على توظيفها وتأديتها من منطلق احترام وقت العمل وإحلال الأجر الوظيفي الذي يتقاضاهُ من رب العمل، سواءً كان في الحكومة أو القطاع الخاص. وكما تُشير تقارير وتنبيهات العقلاء من مغبة الإفراط في عبادة هذه الأجهزة «السارقة» للجهد والعقل والمال والفكر والصحة وكثير غيرها، فإنّ بعض مردوداتها السلبية على اقتصاديات المؤسسات التوظيفية ومنها على البلدان كنتيجة وخلاصة قد تكون مرهبة وقاتلة ومفزعة بعد حصد النتائج السلبية بسبب سوء استخدامها.
استخدام امثل
ولا أعتقد أنّ هناك مَن ينكر أو يتجاهل أهمية الاستخدام الأمثل لهذه الوسيلة المتطورة التي ينبغي أن تكون لصالح الإنسان وفائدته بالاستفادة ممّا يقدمه من معلومات مفيدة ويأخذه ليس إلى متاهات شيطانية سالبة في البحث عن أشكال التخريب العقلي والذهني والأخلاقي وربما المستقبلي والمصيريّ، بل في تحقيق ما يمكنه من مكاسب وفوائد باستخدادمه لإرادته وعقله وفكره بصورة عقلانية في تحقيق الراحة والمنفعة الإيجابية المبتغاة.
عمومًا، ليس هناك مَن يقبل أن تُسرقَ منه البسمة والراحة والسعادة الزوجية والأسرية عندما يقع المحرَّم الذي يقوى على تفريق الزوجة من زوجها والأبناء والبنات من والديهم وأسرهم والمستخدَمين في المؤسسات من إداراتها ورئاساتها بفعل كبائر ودسائس ومساعي تنصّت وسوء استخدام غير مبرّر. من هنا لا نعتقد ولا نؤمن بالخطأ غير المبرّر الذي يتسببُ باختراق وتخريب هذه الأجهزة الحديثة في وسائل التواصل الاجتماعي للعرى المتعارف عليها في المجتمعات والمؤسسات وبين الأمم وشعوب الأرض. وفي حالة خراب البيوت بسبب سوء الاستخدام الأمثل والصحيح وبلوغ الخلل في مؤسسات الدولة وتشعباتها، حينئذٍ نقرع جرس الإنذار للحذر والسموّ والحيطة من مغبة الإيغال أكثر فأكثر. وقد قُرع هذا الجرس في بلدنا منذ سنوات بعد السقوط المأساوي وانحلال الأسرة والعديد من قواعد المجتمع وانهيار مؤسسات الدولة التربوية والتعليمية والصحية والخدمية التي سقطت بفعل فاعل. فعندما يُراد إسقاط أية حضارة أو مدنية تُصوَّبُ سهام المعركة نحو هذه المؤسسات الأخيرة وما يسندها لكونها تمثل البنية التحتية الأساسية في اي مجتمع. وعند انحدارها وتراجعها وتخلفها يقع المحظور. وهذا ما نعيشه فعليًا. لكنّ الساتر علينا هو مردودات نفط البلاد الذي تحوّلَ نقمةً وليس نعمة.