الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في تذكّر يوسف العاني

بواسطة azzaman

أذن وعين

في تذكّر يوسف العاني

عبد اللطيف السعدون

 

في آخر لقاءاتي معه اكتشفت أن بينه وبين مدينة ولادته (الفلوجة) خيوطا من حرير لا تنقطع أبدا، كانت المدينة آنذاك قد خرجت للتو من حرب ضروس مع الأميركيين الذين حاولوا اخضاعها، وكان يوسف يتتبع اخبارها كما يتتبع المرء أخبار حريق شب في منزله، هذا الوصف سمعته منه وأنا أواصل حواراتي معه في العاصمة الأردنية عمان ضمن مشروع (رواد عراقيون) الموؤد، في حينها شعرت كما لو أن يوسف يعود الى الطفل الذي كانه، وأنه لا يستطيع أن ينفك عن جو  المكان الأول الذي فتح عيونه فيه، واذا كان الروائيون يتحدثون عن أهمية عنصر المكان في الرواية ودلالاته فان يوسف العاني ظهر لي في حواراتي معه وكأنه يكتب حياته في رواية، ملتصقا بمشاهد من حياته في المكان الأول على نحو مثير ولافت، يتملاها ويحيلها الى الواقع الماثل المغاير ليجد عالمه الخاص الذي يمنحه مسحة حنين الى أيام عبرت لكنه لا يريدها أن تنفصم عته أو ينفصم عنها.

لم تكن الفلوجة لدى يوسف العاني مجرد مكان الولادة، كما قال، « هي عندي ضوء لا ينطفئ مهما تقدمت بي سنوات العمر، أستعيدها في كثير من المناسبات والحالات التي أمر بها وتمر بي، أنا في واقع الحال ولدت في الفلوجة، وان كانت سجلات الحكومة تقول انني ولدت في بغداد، الحكومة ليست صادقة دائما!»، يضحك يوسف مضيفا أنه وثق ولادته في أرجوزة شعرية ألقاها للتعريف بنفسه أثناء تكريمه في مهرجان قرطاج، «ولدت في الفلوجة/ في صيف حار/ في يوم غير معروف/ وعلى سطح عال مكشوف/ وبقربي نخلة بربن/ الى آخر الارجوزة»، و(البربن) هو نوع من التمر ذو لون أحمر الى بني داكن، له مذاق العسل، اشتهر به العراق أيام الخير السالفات، واختفت أو أوشكت أن تختفي زراعته اليوم.

ذاكرة يوسف لا تهمل الشخصيات التي ألفها وعاش معها، ولا ينفك يستعيد الوجوه الأليفة التي أحبها وتواصل معها في المدينة، «أخي سيد هوبي أول من أدار مكائن الكهرباء في الفلوجة، فتح محلا لتصليح الساعات، أبي كان امام جامع الفلوجة وقد فتح محلا لبيع السجاير مع أخي الثاني أمين، أختي أم خليل كانت تسكن وسط المدينة، هناك أيضا أختي الثانية أم قدوري، وأبن عمي خليل، عندما ارتحلت الى بغداد للدراسة فان سفراتي الى الفلوجة لم تنقطع، حتى لو اضطرني الحال أحيانا للسفر فوق لوري للحمل، ينقل أكياس الحنطة والشعير.. كنت أستقر في بيت أختي أم خليل، ومن هناك أنطلق لأتنقل من بيت الى بيت

بدأت رحلة يوسف مع الفن من الفلوجة، «كنت أسافر مع صديقي غزال إبراهيم الى الفلوجة لنحط الرحال في بيت أختي أم خليل، وقد جعلنا من غرفة نومنا أشيه باستديو صغير، كان غزال مصورا فوتوغرافيا، وكنت أحاول أن أقلد بعض الشخصيات، مثل رجل فقير يستجدي لقمة العيش أو شيخ عشيرة، وغزال يصورني وأنا أؤدي هذه الأدوار التمثيلية..»

يسرح يوسف في ذكرياته عن المدينة، «كان الشاعر الرصافي يقيم في بيت صغير مطل على الفرات، على مقربة من الجسر العتيق، وعادة ما كان يجلس قرب الشرفة، وبشقاوة الصبيان كنت مع بعض أصدقائي نتعمد أن نمر من أمام الشرفة ونحن نردد بصوت عال بعض أشعار الرصافي لنلفت نظره الينا، وقد حدث مرة أن وقفت وأنا أنشد من شعره: « أيها الانجليز لن نتناسى بغيكم في مساكن الفلوجة/ ذاك بغي لن يشفي الله الا بالمواضي جريحه وشجيجه»، وعندما نظر الينا الرصافي من النافذة كنت أول الهاربين

استخدم يوسف العاني هذه الأبيات فيما بعد في مسرحية «الشريعة» على لسان يطل المسرحية عبود البلام الذي قام بأداء دوره حيث يقف أمام السفارة البريطانية متحديا ليسمع موظفيها هذه الأبيات عساهم يلقون القبض عليه ليصبح واحدا من «الوطنيين»!

يقول يوسف: « تعلمت مبكرا الفن والسياسة وقد أورثاني معا ما أنا عليه».

ظل يوسف يحلم بأن يكتب للمسرح شيئا عن الفلوجة وعن مقاومتها للغزاة، لكن المرض أقعده عن أن يحقق ذلك، ورحل عنا في مثل هذه الأيام من عام 2016، وعيونه على موطنه الأول: « انني أعيش أحداث الفلوجة الأليمة منذ الاحتلال، وقد راح بعض أقاربي شهداء على أرضها الطاهرة، وسوف تظل عيوني شاخصة عليها ما حييت».

 


مشاهدات 291
الكاتب عبد اللطيف السعدون
أضيف 2024/10/12 - 1:36 AM
آخر تحديث 2024/11/01 - 3:50 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 126 الشهر 2248 الكلي 10045392
الوقت الآن
الأربعاء 2024/11/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير