الثابت والمتحول بين أدونيس والذكاء الإصطناعي في ظل السياسة العالمية
ايهاب عنان
في عصرٍ يتسم بالتغير السريع والتحولات التكنولوجية المتلاحقة، نجد أنفسنا أمام ظاهرة فريدة تجمع بين الثابت والمتحول في آنٍ واحد. هذه الظاهرة هي الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يمثل نقطة تحول في تاريخ البشرية، ويعيد تشكيل المشهد السياسي العالمي بطرق لم نكن نتخيلها من قبل. وفي هذا السياق، تبرز أفكار الشاعر والمفكر السوري أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول» كإطار فكري ملهم لفهم هذه التحولات العميقة.
يطرح أدونيس في كتابه فكرة الصراع بين الثابت - الذي يمثل التقاليد والأعراف الراسخة - والمتحول الذي يمثل التجديد والابتكار. وفي سياق الذكاء الاصطناعي التوليدي، نجد أن هذا الصراع يتجلى بوضوح في الساحة السياسية العالمية. فمن جهة، نرى الثوابت السياسية التقليدية - من مؤسسات وأنظمة وقوانين - تحاول الحفاظ على هيمنتها وسلطتها. ومن جهة أخرى، نشهد تحولاً جذرياً في طبيعة الخطاب السياسي وآليات صنع القرار بفعل تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة.
إن الذكاء الاصطناعي التوليدي، بقدرته على إنتاج محتوى نصي وصوتي ومرئي بجودة عالية، يمثل قوة تحويلية هائلة في المجال السياسي. فهو يعيد تشكيل الطريقة التي يتواصل بها السياسيون مع الجماهير، ويغير من آليات صناعة الرأي العام وتوجيهه. وهنا يبرز التوتر بين الثابت - المتمثل في الأساليب التقليدية للدعاية السياسية - والمتحول المتمثل في الإمكانيات الهائلة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لصياغة رسائل سياسية مخصصة ومؤثرة بشكل غير مسبوق.
عملية سياسية
إن تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على العملية السياسية العالمية متعدد الأوجه ويمتد ليشمل جوانب عديدة:
تحول في طبيعة الحملات الانتخابية : أصبح بإمكان الأحزاب والمرشحين استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الضخمة وتوجيه رسائلهم بدقة أكبر للناخبين. هذا يعني أن الحملات الانتخابية تتحول من نموذج «مقاس واحد يناسب الجميع» إلى نموذج شديد التخصيص والاستهداف.
تغيير في ديناميكيات صنع القرار : يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد صانعي السياسات في تحليل كميات هائلة من البيانات واستخلاص رؤى منها بسرعة وكفاءة غير مسبوقة. هذا قد يؤدي إلى تحسين جودة القرارات السياسية، ولكنه يثير أيضاً تساؤلات حول مدى الاعتماد على الآلات في صنع القرارات المصيرية.
تحديات جديدة للديمقراطية : مع قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج معلومات مضللة بسهولة وبجودة عالية، تواجه الديمقراطيات تحديات جديدة في مكافحة الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي. هذا يتطلب إعادة النظر في آليات الرقابة والتحقق من المعلومات.إعادة تشكيل الخطاب العام : يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في إثراء النقاش العام من خلال توفير تحليلات معمقة وطرح وجهات نظر متنوعة. ولكنه في الوقت نفسه قد يؤدي إلى تفتيت المجال العام وخلق «فقاعات معلوماتية» تعزز الاستقطاب السياسي. تغيير في موازين القوى العالمية : الدول التي تمتلك تقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة قد تكتسب ميزة استراتيجية في الساحة الدولية، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات والعلاقات الدولية.تمثل الانتخابات الأمريكية المقبلة ساحة اختبار حقيقية لتأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على العملية السياسية.
بيانات ناخبين
ومن المتوقع أن نشهد عدة ظواهر مثيرة للاهتمام:
حملات انتخابية فائقة التخصيص : سيستخدم المرشحون الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الناخبين وتصميم رسائل مخصصة لكل شريحة، بل ولكل ناخب على حدة. هذا قد يؤدي إلى زيادة فعالية الحملات، ولكنه يثير أيضاً مخاوف بشأن الخصوصية وحماية البيانات.مواجهة التضليل الإعلامي : ستكون هناك تحديات كبيرة في مواجهة الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة التي يمكن إنتاجها بسهولة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. سيتطلب هذا جهوداً غير مسبوقة من وسائل الإعلام والمنظمات المعنية بالتحقق من المعلومات.تغيير في طبيعة المناظرات السياسية : قد نشهد استخدام الذكاء الاصطناعي في إعداد المرشحين للمناظرات، وربما حتى في تحليل أداء المرشحين في الوقت الفعلي وتقديم اقتراحات لتحسين أدائهم.تحديات قانونية وأخلاقية : ستثار تساؤلات حول مدى شرعية استخدام الذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية، وقد نشهد محاولات لوضع ضوابط قانونية جديدة لتنظيم هذا الاستخدام.
تغيير في ديناميكيات المشاركة السياسية : قد يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي إلى زيادة مشاركة بعض الفئات في العملية السياسية من خلال توفير معلومات مخصصة وسهلة الفهم. ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى تعميق الفجوة الرقمية بين من يمتلكون القدرة على الوصول إلى هذه التقنيات ومن لا يمتلكونها.في ختام هذا التأمل في تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على المشهد السياسي العالمي، نجد أنفسنا أمام تحدٍ كبير يتمثل في إيجاد توازن جديد بين الثابت والمتحول. فمن جهة، هناك حاجة للحفاظ على القيم الديمقراطية الأساسية والمؤسسات السياسية التي أثبتت فعاليتها عبر الزمن. ومن جهة أخرى، لا يمكننا تجاهل التحولات العميقة التي يحدثها الذكاء الاصطناعي في طبيعة العمل السياسي وآليات صنع القرار.
إن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية توظيف إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز المشاركة الديمقراطية وتحسين جودة القرارات السياسية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الضمانات الأساسية للحريات الفردية وحماية الخصوصية. وهنا تبرز الحاجة إلى حوار مجتمعي واسع حول الأطر الأخلاقية والقانونية التي يجب أن تحكم استخدام هذه التقنيات في المجال السياسي.
في النهاية، يبقى الإنسان - بوعيه وقدرته على التفكير النقدي - هو المحور الأساسي في العملية السياسية. فمهما بلغت قدرات الذكاء الاصطناعي، تظل القرارات السياسية الكبرى في جوهرها قرارات إنسانية، تعكس قيمنا وتطلعاتنا كمجتمعات. ولعل التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو كيفية الاستفادة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز قدرتنا على اتخاذ قرارات سياسية أكثر حكمة وعدالة، دون أن نفقد إنسانيتنا في خضم هذه الثورة التكنولوجية الهائلة.
إن الجدلية بين الثابت والمتحول، التي طرحها أدونيس، تتجلى اليوم بصورة جديدة في عصر الذكاء الاصطناعي. ونحن مدعوون للتفكير بعمق في كيفية صياغة مستقبل سياسي يجمع بين أفضل ما في تراثنا السياسي وبين الإمكانيات الهائلة التي تتيحها لنا التكنولوجيا الحديثة. وفي هذا السياق، يبقى الحوار المجتمعي المفتوح والنقد البناء هما السبيل الأمثل لرسم معالم هذا المستقبل.