رسام الكاريكاتير الحزين ناجي العلي .. رمز فلسطيني خالد
بغداد - علي إبراهـيم الدليمي
للفنان ناجي العلي، عتاب قاس جداً في رسوماته التعبيرية على الكثير من يدعون العروبة والإسلام إتجاه قضيتهم الرئيسية (فلسطين)، التي لا زالت تحت نير وجور الاحتلال الصهيوني الغاصب.. رحل ولم يكن راض عنهم. على مدى مسيرته الفنية/ الكفاحية المؤلمة. في يوم 29 من آب عام 1987، فارق الحياة الرسام والصحفي الفلسطيني المناضل ناجي العلي، على اثر عملية إغتيال دنيئة وجبانة، دبرت له من قبل (الموساد) الصهيوني العالمي، وعملائه، نفذت ضده في أحد شوارع لندن من يوم 23 تموز من العام نفسه. لقد أختار المجرمون، ناجي العلي، لإغتياله لإنه كان إنساناً وطنياً مخلصاً، وفناناً ملتزماً بقضية وطنه المغتصب، ومدافعاً عن أهله المشردون.. بل وإتجاه الإنسانية جميعاً.. ولإنه كان يصنع الأمل القادم ويبشر فيه، ولإنه أستنكر بشدة الأوضاع المتردية التي يعيشها أهله داخل الأراضي المحتلة، من الإجراءات التعسفية والتعذيب المستمر، ولا يزال، التي تستخدمها صهيونية الإحتلال المقيتة ضدهم. للأسف الشديد، نالت الأيدي المجرمة من ناجي العلي كـ (جسد) طاهر، ولكنها لم تنال من روحية رسوماته الشامخة التي لم تمت، والتي حفرت وترسخت بعمق في ذهن وضمير كل عربي، ومسلم، وإنسان حر وشريف في كل مكان.. وزمان.
فقد أستخدم العلي، لغة فن الكاريكاتير المعبرة والصارخة، كسلاح جارح بقوة في فضح وتعرية كل أبعاد وأهداف المرحلة الصهيونية العالمية البغيضة، وأطماعها التوسعية في الأراضي العربية.. ما جعل الدوائر والمؤسسات المعادية والمشبوهة تخشى ريشته الساخرة.. وبالتالي تصفيته نهائياً، ويدفن في مقبرة بروك وود... في المملكة المتحدة، بعيداً عن وطنه الذي ناضل من أجله !!. لقد عاش الفنان الشهيد ناجي العلي (مواليد 1938) منذ صباه حزيناً، ترعرع وقد فتحت عيناه تحت تسلط عمليات الإرهاب وإحتلال وطنه، لم يذق طعماً للحرية قط في حياته.. معذب، مشرد، رصاص الإحتلال.. والغدر والخيانة تلاحقه أينما وجد، لكنه كان يبتسم بأمله للمستقبل وللحياة وللسلام... حتى رسوماته الساخرة غلب عليها طابع الحزن والألم، كان يرسمها باللون الأسود فقط.. غير ملونة، لا نرى فيها (قهقهة) الكاريكاتير وحلاوته المعروفة، رسوم نراها ونلمسها محملة بالآلأم الموجعة، والجراح العميقة، التي تخزنت في خوالجه رساماً وإنساناً ومناضلاً فلسطينياً صلباً صامداً.. فالهمّ عنده ليس همّاً شخصياً، بل همّ جماعي يرتبط بالآم الآخرين، بالآم الوطن، بالآم الإنسان العربي.. ويعتبر الحزن الذي أنتابه منذ الصبا ظاهرة مريحة لوجدانه، وحالة الحزن هذه بالنسبة له ظاهرة إنسانية نبيلة، بل هي أنبل من الفرح نفسه، فالإنسان يستطيع إفتعال الفرح.. أما الحزن فلا... لقد سعى ناجي العلي، منذ بدايته الفنية، في الستينيات إلى اللجوء لإسلوب وأفكار جماعة (توبور) الفرنسي، المبشرة بكاريكاتير (الضحكة السوداء) لإنه أصلاً لا يريد أن يضحك أحداً، بل أن يستفز عواطفه ومشاعره إلى أقصى حد ممكن من خلال تعميق إحساسنا بقضية جوهرية وطنية وإنسانية خالصة، توحدنا في الألم والتطلع.. كان يرسم لا ليقهقة الناس، وترسم البسمة على وجوههم وينسوا قضيتهم الأساسية، بل ليقرأوا همومهم المثقلة، ويستذكروا جلياً ماضيهم، لشحن فيهم إستنفارهم وتحريضهم للثورة على ظلم الإحتلال، ويرسم ليعالج الألم الموجع، ويداوي الجرح العميق المنزف الذي أصاب جسد أبناء وطنه المحتل فلسطين.
وقد رافق ناجي العلي، طيلة مسيرته الفنية (حنظلة) ذلك الطفل الصغير، الذي لم يتقدم بالعمر، الحافي القدمين، المرقع الملابس، يديه معقودتين الواحدة على الأخرى خلف ظهره الذي داره علينا، منذ اللحظة الأولى من ولادته، لينظر بآسى كبير إلى ما يحدث.. وما ينتج..
حنظلة، هذا الصبي الصغير بحجمه الطفولي والكبير بعقله، الذي خرج من أعمق أعماق روحية وضمير ناجي العلي، وقد أصبح فيما بعد وكأنه توقيعه الخاص بدلاً من الكتابة على الرسم، جعله الشاهد الذي يعي قضيته برهافة وإحساس وطني وإنساني، لإنه تمخض وولد ونشأ طبيعياً من رحم القضية الفلسطينية، وظل كالحارس الأمين، الذي يحاول أن يراقب بدقة عن كثب، كل ما يجرى حوله وأمامه، بكثير من الألم والصبر، يحمل هموم ومأساة شعب مظلوم، وينتظر اللحظة المناسبة والحاسمة مع الناس الشرفاء في العالم.. لكي يعلنوا مصيرهم المحتوم في النصر والتحرير الأكيد.. في يوم ما..