الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إنقلاب 29 تشرين الأول- أكتوبر وجذور فكرة الثورة

بواسطة azzaman

إنقلاب 29 تشرين الأول- أكتوبر وجذور فكرة الثورة

 

حيدر سعيد

 

«انقلاب 29 تشرين الأول” كتيب صغير (من 88 صفحة)، يبشّر بما يُعرف في التاريخ السياسي العراقي ب “انقلاب بكر صدقي».صدر الكتيب في بغداد أواخر العام 1936، أي بعد أسابيع قليلة من الانقلاب، ومقدمتُه مؤرخة في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1936، أي بعد 6 أيام فقط منه.مؤلف الكتيب هو “المحامي يوسف إسماعيل”، على نحو ما جاء في صفحة العنوان، وهو من عائلة موصلية الأصل، انخرط العديدُ من أفرادها في المجال السياسي والحكومي والإداري في العراق والمنطقة، فشقيقُه عبد القادر إسماعيل البستاني هو أحد مؤسسي جماعة “الأهالي”، وقد كان من رواد الفكر الاشتراكي في العراق، وأصبح لاحقًا أحد الشخصيات الشيوعية البارزة، كما أنه انخرط في الحزب الشيوعي السوري، وأصبح عضوًا في لجنته المركزية، فضلًا عن أنه أصبح عضوًا في مجلس النواب في العراق في العام 1937، وشقيقُه الآخر خليل أصبح وزيرًا للمالية (1948-1949)، وابنته سعاد خليل إسماعيل أصبحت وزيرة للتعليم العالي والبحث العلمي (1970-1972). ولوهلة، ظننت أنه أب الصديق طارق إسماعيل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كالغاري في كندا، ومؤلف الكتاب الشهير عن “صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره” (2007)، فضلًا عن كتب مرجعية أخرى عن اليسار العربي وتاريخه، ولا سيما في المشرق، فإسماعيل يذكر في مذكراته التي صدرت تحت عنوان “من زوايا الذاكرة” (2022)، أن أباه كان قريبًا من جماعة “الأهالي” والحزب الوطني الديمقراطي، غير أن التدقيق كشف لي أن يوسف إسماعيل، أب طارق، هو غير يوسف إسماعيل، مؤلف الكتيب الذي نحن بصدد الحديث عنه.الكتيب غير مجهول، وقد أشير له وأحيل عليه مرات عدة. وفي بعض الأحيان، كان يوصف بأنه “منشور شيوعي”، وهو وصف متعجل وغير دقيق، على نحو ما سنرى.الغريب أن من أحالوا على الكتاب لا يذكرون اسمَ مؤلفه، فبدا وكأن الكتاب نُشر من دون ذكر اسم المؤلف (د. م.)، ما سهّل - بالتالي - التعامل معه على أنه “منشور”. وهؤلاء كانوا ينجرون وراء أن اسم المؤلف لم يُذكَر على الغلاف الرئيس، مع أنه ذُكر في صفحة العنوان الرئيسة بشكل صريح.

وفي تقديري أن التعامل مع هذا الكتيب، انطلاقًا من اسم مؤلفه، مفتاح مهم لتحليله سياقيًا ونصيًّا.يوسف إسماعيل، إذن، جزء من جماعة “الأهالي”، ذات التوجه الفابي، والتي كانت مؤيدة للانقلاب. وهذا يفسّر الطابع التبشيري للكتيب.غير أن المهم، هنا، أن المؤلف يقول إنه أول من أطلق على ما قام به بكر صدقي تعبير “انقلاب” (ص 25)، في الإشارة إلى أن ما جرى ليس تغييرًا وزاريًا قسريًا. إنه “انقلاب”، وقد كانت لهذا التعبير - في الوقت الذي أُلّف فيه هذا الكتيب - حمولة إيجابية، تجعله مرادفًا - بقدر ما - ل “الثورة”. ولا تزال الفارسية المعاصرة تستعمل كلمة “انقلاب”، ذات الأصل العربي، لما تسميه الأدبيات العربية “ثورة”. وهذا كله يدل على أن شحن كلمة “انقلاب” العربية بدلالة سلبية إنما حصل بعد هذا التاريخ (والأمر يستحق دراسة جدية لفهم التطور الدلالي لكلمتي “ثورة” و”انقلاب”، ولمَ شُحنت الأولى بدلالة إيجابية، وظلت دلالةُ الأخرى سلبية، ومتى؟ وكيف جرى ذلك؟ وفي أي سياق؟).لم يستعمل المؤلف تعبير “ثورة” لوصف انقلاب بكر صدقي، مع أن هذا التعبير كان مستعملًا بكثرة في الأدبيات العراقية، فعلى سبيل المثال، ما نسميه اليوم “ثورة العشرين” كان يُسمّى في أدبيات تلك المرحلة “الثورة العراقية”، غير أن المؤلف لم يستعمل تعبير “ثورة”، لأنه - في تقديري - لم يرد أن ينزل انقلاب صدقي منزلة الثورة العراقية.

ومع ذلك، وفي واقع الحال، هو تعامل معه بوصفه “ثورة” على “الطغمة الحاكمة الفاسدة”، وهي ثورة فيها قدر من “الليبرالية” (بتعبيراتنا الراهنة)، فالمؤلف يهدي كتيبه إلى “كل حر جعل ديدنَه وأوقف حياتَه على العمل لترفيه الجماهير بالقضاء على فئة صغيرة مستغلة مُفقِرة، ولخلق وضع يعطي الأفراد الحريتين الاقتصادية والسياسية، ويضمن لهم العمل وثماره، والوقاية والمداواة، والتعليم والإعالة في حالات العطل والبطالة والشيخوخة” (ص 2).هذه “الليبرالية الدولتية”، إن صح التعبير، التي ترد في هذا النص، أي الليبرالية التي تحافظ فيها الدولةُ على دورها الأساسي بوصفها منظِّمًا، مأخوذة من منهاج “جمعية الإصلاح الشعبي” (سأتحدث عنها بعد قليل)، الذي ينشره المؤلف ملحقًا بالكتيب (ص 79-82). وهي، في الحقيقة، مستلهمة من أفكار منظّر “الأهالي”، عبد الفتاح إبراهيم، الذي (وإن كان قد تفرد بين “الأهالي” بمعارضة انقلاب صدقي، بل إنه ترك الجماعة قبل الانقلاب بأشهر، لتفاصيل لا يتسع المجال هنا لذكرها) صاغ مطلع الثلاثينيات مبدأ “الشعبية”، الذي هو نوع من التنظير المحلي للفكرة الفابية، وكنت قد وصفتُه - في محاولة سابقة - بأنه محاولة محلية لصياغة إيديولوجيا تمثل “طريقًا ثالثًا” (بتعبير أنتوني غيدنز) بين الإيديولوجيتين أو الحركتين، اليسارية والقومية (وبلا شك، يستحق عبد الفتاح إبراهيم وقفة خاصة أوسع). «جمعية الإصلاح الشعبي”، التي نشر المؤلف منهاجها ملحقًا، هي التنظيم السياسي (الحزب)، الذي تشكل أيّامًا بعد الانقلاب، وأسّسه شقيق المؤلف، عبد القادر إسماعيل، وجعفر أبو التمن، وآخرون، ولم يعمر لأكثر من سنة.وكما قدّمت، يستلهم منهاجُ الجمعية فلسفةَ “منهاج الشعبية”، الذي وضعه عبد الفتاح إبراهيم في العام 1933، بل إنه يقتبس منه حرفيًا، وهو الأمر الذي جعل الكثيرين يتعاملون مع “جمعية الإصلاح الشعبي” بوصفها امتدادًا لجماعة “الأهالي”، وإن كان عبد الفتاح خارجها.

قلت إن هذا الكتيب وُصف بأنه “منشور شيوعي”. وفي الحقيقة، وعلى وجه الدقة، هو تعبير عن توجه يسار جماعة “الأهالي”، الذي تحرك بعض شخصياته نحو الشيوعية لاحقًا. ودائمًا ما كانت “الأهالي”، ولاحقًا وريثها الحزب الوطني الديمقراطي، يضمان تيارًا يساريًا قريبًا جدًا من الشيوعية.

هذا اليسار (وسائر جماعة “الأهالي”، باستثناء عبد الفتاح إبراهيم) كانوا يرون في الانقلاب شيئًا أبعد من تغيير رأس الحكومة، وأوسع من الطموح الشخصي لبكر صدقي، الذي كان يرى في نفسه “أتاتورك العراق”، أب الأمة العراقية، بل حتى أوسع من النظر إليه وإلى وخطواته بأنها تعبير عن تيار “عراقوي” إدماجي، بإزاء التيار العروبي الحاكمهذا اليسار (بالمعنى الواسع لكلمة “يسار” هنا) كان يرى فيما جرى يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1936 ثورة (أو انقلابًا بالمعنى الإيجابي، كما في عنوان الكتاب)، لا تغيّرُ رأسَ الحكومة فقط، بل تعيد صياغة منظومة الحكم على نحو جذري (من دون أن يمس هذا شخص الملك). إنها تتويج لنضال طويل، بدأ في ثورة العشرين (يُفتتح الكتيب بالحديث عن هذه الثورة/ ص 4)، ويمر بانتفاضة الفرات الأوسط في العام 1935، ويصل إلى 1936.هذا التيار كان يريد إعادة تعريف حركة بكر صدقي بأنها “ثورة راديكالية”. ولذلك، وبسبب هذين الفهمين والطموحين المختلفين، حدث الخلاف سريعًا بين الجنرال والدائرة التي أيّدته من مثقفين وسياسيين وناشطين، إذ بدا وضحًا أن صدقي لا يسعى إلى تغيير بنية النظام وقواعده.تنقل مصادرُ حوارًا جرى بين نوري السعيد وعبد القادر إسماعيل، كان الأخير فيه في السجن، وكان السعيد يطلب من إسماعيل أن يكون كأخيه خليل، الذي سيصبح وزيرًا أواخر الأربعينيات، غير أن عبد القادر كان يجيب السعيد بالعبارة الآتية: “نحن ثوريون، ولسنا إصلاحيين».من هنا، كان طبيعيًا ومفهومًا أن ينخرط هذا التيار نفسه، بعد عقدين من انقلاب بكر صدقي، في تشكيل “جبهة الاتحاد الوطني”، التي كانت الإطار السياسي ل “الثورة” التي أطاحت بالنظام، وقادها أتاتوركي آخر، هو عبد الكريم قاسم. كانت الثورة فكرةً حاضرة في 1936.غير أن من روى التاريخ اختزل ما جرى في تلك السنة بأنه “انقلاب عسكري حظي بتأييد بعض النخبة السياسية والمدنية والمثقفة”، هكذا، هكذا فقط.


مشاهدات 350
الكاتب حيدر سعيد
أضيف 2024/07/27 - 1:08 AM
آخر تحديث 2024/08/31 - 8:13 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 44 الشهر 44 الكلي 9988666
الوقت الآن
الأحد 2024/9/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير