سلسلة أسواق بغداد
ورّاقو السراي .. حيث تُصنع المعرفة والثقافة 2-2
صلاح عبد الرزاق
مهنة الوِراقة
الوراقة، هي حرفة تختص ببيع الورق وأدوات الكتابة، أو الكتب، أو نسخها أو تهذيبها أو تجليدها.
يصف ابن خلدون مهنة الوِرَاقة، (بأنها حرفة معاناة الكتب بالاستنساخ، والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتابية والدواوين). ويوضح أبو حامد العربي الفاسي، بأن (النساخة حِرفة، وهي الوِرَاقة، وكلّ من جعل النسخ حرفة يحترفها أو شغلاً يشتغل به لنفسه، فهو نسّاخ وورّاق أيضاً، والجمع ورّاقون).
كانت هناك أربعة أمور يهتم بها الوراق وهي:
1-النسخ والتأليف وما يتبعه من تزويق وتصوير وتذهيب.
2- بيع الورق والحبر وأدوات الكتابة والأقلام.
3- تجليد الكتب
4- بيع الكتب (9)
أما مهنة النسخ فهي من المهام الرئيسة . وقد ارتبطت بحركة الترجمة والتأليف بعد أن ينتهي المترجم أو المؤلف من الكتاب يقدمه للناسخ. وكان هناك نساخ مشهورين بجودة الخط ، وكانت مهنة الناسخ تتركز في ثلاثة أمور وهي:
1-ناسخ يعمل في خدمة ورّاق معيّن.
2- ناسخ يعمل في خدمة مؤلف معيّن.
3- ناسخ مستقل يعمل لحسابه الشخصي. بيع الكتب (10)
وقد تخصص بعض النساخ في علوم محددة فظهر فيهم:
1-من ينسخ العلوم الشرعية والفقه والأصول واللغة العربية. وله إطلاع بالمصطلحات الفقهية والعربية.
2- من ينسخ التاريخ وله خبرة بأسماء الملوك والأسر الحاكمة وألقابهم ونعوتهم وكناهم خصوصاً ملوك الترك والعجم ، وأسماء المدن والقرى والبلدان ، ويحتاج الناسخ كتابتها بضوابط وإشارات تدل عليها.
3- ناسخ الشعر والدواوين فيحتاج إلى معرفة العربية وعلم العروض ليقيم وزن البيت إذا أشكل هو على أصله وصفته أو حصل فيه حذف أو زيادة ، فيكتبه حسب خبرته وعلمه بحيث لا يخل بالمعنى.
ويحتاج الوراق إلى مقابلة المنسوخ بالمخطوط الأصلي . وهو أمر أساسي في منهج الوراقة. فالمقابلة تأتي تبعاً للإملاء حيث ينبغي للطالب مقابلة كتابه بكتاب شيخه الذي يروي عنه سماعاً أو إجازة. إن نسخة الأصل تكون هي الأفضل إذا كانت بقلم المؤلف. وعادة ما يقوم بالمقابلة شخصان ، أحدهما الناسخ يقرأ فيما نسخه ، والآخر يدقق مع يسمعه بالنسخة الأصلية.
لقد أحصى الأديب الجاحظ مائة دكان للوراقة، كل واحد منها، يعّد مطبعة بالمفهوم الحديث، يشتغل في إعداد الكتب من نسخها وتذهيبها وتجليدها. وكان للورّاقين آدابهم وأخبارهم ونتاجهم الأدبي، وشكّلوا دعامة أساسية للثقافة والعلم والفن، فأصبح السوق ملتقى العلماء والأدباء والفقهاء. وتقرأ النسخة على المؤلف نفسه والحصول على موافقته ، إذا كان على قيد الحياة وقريباً من الوراق.
ومن آداب النسخ أن يبدأ بكتابة البسملة والدعاء ، وكتابة (أما بعد) . وعلى الناسخ كتابة تاريخ النسخ ، ويكتب رسمه في نهاية الكتاب.
والطريف في مهنة الوراقة، هو وظيفة الشخص «المُنادي» على الكتب، أي، الذي يقوم بدور الدعاية والإشهار صوتياً، كما في الدعاية التلفزية والإذاعية حالياً.
ومن الجدير بالاعتبار أن العرب ما كادوا يتعلمون هذه الصناعة حتى بدأوا بتجارب لإنتاجه من الكتان والخرق، وظهرت في بغداد أولى مصانع الورق، وبدأ استخدام الورق في دواوين الدولة، ثم انتشرت مصانع الورق بالتدريج في أنحاء الإمبراطورية، وأنتجت أنواعاً جديدة منه، مثل ورق الحرير، وورق الكتابة، والورق المقوى وغير المقوى والورق الناعم والخشن والأبيض والملون.
وكان من حسن طالع الفنون والآداب، إذ وجدت بانتهاء عهد البردي والرق مادة رخيصة وجديدة للكتابة. إن الانقلاب الناتج عن إدخال الورق لم يكن أقل شأناً من توطئة الطريق لفن الطبع، لأن الندرة الشديدة للكتب كانت على الأكثر راجعة إلى ندرة الرقوق، ولذلك كانت أسعار الكتب غالية جداً، وحتى في الزمن الأخير في عهد لويس الحادي عشر حينما أراد الملك أن يستعير تصانيف طبية للإمام الرازي من مكتبة جامعة باريس، قدم مقداراً من الذهب للتأمين، واضطر زيادة عليه أن يقدم شريفاً لينضم معه كالضمانة في عهد يجبره على إعادة الكتاب.
ومما له دلالته أن صناعة الورق أدخلت إلى إسبانيا في القرن الثاني عشر، واتخذت لها مركزاً في طليطلة، ومنها انتشرت تحت رعاية مسلمي الأندلس إلى ممالك إسبانيا المسحية. وعلى هذا النحو تعلم الإيطاليون أيضاً فن صناعة الورق من مسلمي صقلية، ويؤكد ستانوود كب على أن أول وثيقة أوربية مسجلة على الورق إلى الملك روجر الصقلي Roger of Sicily ترجع إلى عام 495 ﻫ/ 1102 م وأقيمت مصانع الورق لأول مرة في إيطاليا عام 675 ﻫ/ 1276 م بمدينة فابريانو Fabriano وسرعان ما تبعتها مصانع أخرى في جميع المدن الهامة، وهكذا كان إمداد أوربا بالورق عدة بين يديها لإخراج الكتب بكميات كبيرة حين حدث اختراع الطباعة حوالي عام 844 ﻫ/ 1440 م. (11)
وتتضح الأهمية البالغة للورق عندما تتمثل في أذهاننا ظروف العصور الوسطى حين كانت كتابة الكتب تجري في قماش Vellum أو رّق البرشمان Parchement) ) وهما باهظان الثمن حتى أن الكاتدرائيات والأديرة وحدها هي التي كانت تمتلك مكتبات.
ولكي يتبين مدى الأثر البعيد الذي تركه هذا الاختراع وصناعته، يكفي هنا أن نشير إلى مقدار المفردات التي دخلت اللغات الأوربية والتي تتصل بالورق وصناعته اتصالاً كبيراً. فالعبارات على المقاييس الورقية مثل (ريز) عربية الأصل، فلفظ (رِيز) هو العربي (رزمة) بمعنى ما شد في ثوب واحد، ومن ثَمّ انتقلت إلى الإسبانية حيث نجد رزمة وإلى الإيطالية رزمة والفرنسية (رام) والإنجليزية (ريم).
كما يؤكد جوستاف لوبون على أن العرب اخترعوا من الأسمال صناعة الورق الصعبة الكثيرة التراكيب، ويستند في هذا الرأي إلى أن العرب استخدموا هذا النوع من الورق في زمن أقدم من الزمن الذي استخدمته فيه الأمم النصرانية بمدة طويلة، فأقدم ورق موجود في أوربا من هذا النوع هو ورق الكتاب الذي أرسله جوانفيل إلى الملك سان لويس قبيل وفاته عام 1270 م، أي بعد حملته الصليبية المصرية الأولى، مع أن لدينا ورقاً عربياً صُنع من الأسمال قبل هذا التاريخ بنحو قرن، كالورق المحفوظ بين مخطوطات برشلونة والمكتوب عليه معاهدة السلم بين ملك أرغونة الأذفونشي الثاني وملك قشتالة الأذفونشي الرابع عام 1187 م والمصنوع في مصنع شاطبة العربي الشهير الذي امتدحه العالم الجغرافي الإدريسي في النصف الأول من القرن الثاني عشر من الميلاد.
أما المكتبات الخاصة فكانت لا تحصى، ولقد رفض أحد الأطباء دعوة سلطان بخارى للإقامة ببلاطه، لأنه يحتاج إلى أربعمائة بعير لنقل مكتبته، وربما ملك الصاحب بن عباد في القرن العاشر كمية من الكتب تقدر بما كان في مكتبات أوربا مجتمعه، وبلغ الإسلام في ذلك الوقت أوج حياته الثقافية، وكنت تجد في ألف مسجد منتشرة من قرطبة إلى سمرقند، علماء لا يحصيهم العد، كانت تدوي أركانهم بفصاحتهم.
وقد كتب أقدم مخطوطات على ورق بالعربية في القرن التاسع، وربما يكون كتاب «غريب الحديث» المنسوخ في عام 866 م أحد أقدم هذه الكتب، وهو الآن محفوظ بمكتبة جامعة ليدن، وأما أول وثائق أوربية مكتوبة على ورق، فعقد للملك روجر الصقلي في عام 1102 م وأمر كتبته زوجته باليونانية والعربية معاً في عام 1109 م.
وتذكر لنا المستشرقة زيغريد هونكة انتشار المكتبات في العالم العربي والإسلامي بقولها: «نمت دور الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة، ففي عام 891 ﻫ يحصي مسافر عدد دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مئة، وبدأت كل مدينة تبني لها داراً للكتب يستطيع عمرو وَزيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس في قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد، كما ويجتمع فيها المترجمون والمؤلفون في قاعات خصصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم في أرقى الأندية العلمية. (12)
ومع بداية القرن الرابع الهجري أصبحت المكتبات العربية والخزانات تعج بالمخطوطات والكتب التي تبحث في كافة العلوم والآداب، وعلى أقل تقدير ينسخ عن هذه الكتب والمخطوطات، ولقد كانت زيادة أعداد هذه النسخ من المخطوطات تعتمد على فئة من الكتبة الذين كانوا يسمون بـ»الوراقين» الذين انتشرت دكاكينهم في كافة أنحاء الدولة العربية الإسلامية، وكان هؤلاء ينسخون آلاف المخطوطات، ولولا وجود «الوراقين» ما كانت المخطوطات العربية بهذه الكثرة. والوراقة هي مهنة «الوراق» وهي أشبه ما تكون من حيث المهمة والإطار العام بدور النشر الحالي، وهي أقل مرتبة من التأليف، وتتطلب مهنة الوراقة حسن الخط وجودته، ودقة النقل والضبط.
ولم تكن تلك الكتب التي تنسخ رخيصة الثمن، فقد تقاضى ابن الهيثم عالم البصريات المشهور - مثلاً - 75 درهماً أجراً لنسخ مجلد من مجلدات إقليدس، وقد عاش منه ابن الهيثم ستة أشهر، ولقد ترك ابن الجزار - الطبيب والرحالة القيرواني - عند وفاته 250 طناً من لفائف جلد الغزال التي كتبها بنفسه. وعرف الناس عند وفاة أحد العلماء أنه قد ترك 600 صندوقاً متخماً بالكتب في كل فروع العلم، وأن كل صندوق منها بلغ من الثقل حداً جعل عدداً من الرجال يعجزون عن نقله إلى خارج المنْزِل.
في هذه الحوانيت استقبل ابن النديم زبائنه وتعرف بهم، وكان ابن النديم تاجراً للكتب، وكان هو نفسه عالماً فذا له شهرته، وهو مؤلف «الفهرست» الذي يحوي أسماء جميع الكتب والترجمات التي ظهرت باللغة العربية حتى ذلك الحين، وقد ذيل اسم كل كتاب بشيء عن مؤلفه، وكان أغلب ما كتبه عن المؤلفين وليد خبرته ومعرفته الشخصية بهم كتاجر للكتب.
وكان ابن النديم كأغلبية زملائه من تجار الكتب، فقد تلقى تربية علمية واسعة للكتب فسمع محاضرات الأعلام من فلاسفة عصره، وزار منازلهم، وتعرف بالأوساط العلمية التي انتشرت على شكل جماعات ومدارس في كل أنحاء المنطقة العربية خلال القرن العاشر، وكان ابن النديم صديقاً مقرباً لعلي بن عيسى، أشهر أطباء العيون في العصور الوسطى، ولغيره من أئمة العلماء الذين كان يقضي معهم السهرات الطوال في المناقشات العلمية المثمرة، ولم يكن هذا الرجل المثقف تلك الثقافة العالية إلا نموذجاً للكثيرين من زملائه ناشري العلم والمعرفة في تلك العصور.
وقد وفرت له هذه المهنة (الوراقة) بعض من سعة العيش في شبابه، إلا أنه تطلع إلى التخلص منها في مرحلة الكهولة والشيخوخة، حين بدأ يتصل بالوزراء، وقد اتسع أفقه العلمي وترامت معرفته الموسوعية إلى آفاق رحبة وعميقة في مختلف المعارف والعلوم، فأظهر منها الضجر وسماها حرفة الشؤم، لأن فيها ضياع العمر والبصر، ورفض بتبرم شديد أن ينسخ لابن عباد ثلاثين مجلدة من رسائله، حين طلب منه ذلك، وكان هذا من أسباب الجفوة بينهما.
ولا يجب أن ننسى أن أستاذ التوحيدي الذي تخرج عليه في علم الكلام، وأخذ عنه مباشرة الكثير من الدروس النحوية والمنطقية، فهو الشيخ علي ابن عيسى الرماني (276 ﻫ / 890 م) المعروف أيضاً بالوراق، والذي كان أحد مشاهير الأئمة في مختلف العلوم خاصة في علم الكلام الاعتزالي ، وقد كانت له مصنفات علمية في جميع العلوم من نحو ولغة ونجوم وفقه وحديث، فضلاً عن تفسير كبير للقرآن الكريم، وكتاب دقيق في إعجاز القرآن الكريم. ونجد التوحيدي صاحب التآليف الكثيرة والعميقة يروي عنه كثيراً في مؤلفاته خاصة في كتابه «المقابسات» ويثني عليه في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» بقوله: «وأما علي بن عيسى فعلي الرتبة من النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق.. وقد عمل في القرآن كتباً نفيسة، هذا مع الدين الثمين والعقل الرزين.
وعن دور الوراقة في نشر العلوم الإسلامية، وكذلك الإسهام الجمالي لهذه المهنة، يشير مؤّلف كتاب «ورّاقو بغداد في العصر العباسي»، لنأخذ دور الخطّاطين في مهنة الوراقة، الذين كانوا يخطّون الكتب، فقد انشقّ هؤلاء لاحقاً عن المهنة، وأسّسوا مدرسة الخط العربي. وأضاف: «هكذا، ساهموا جمالياً بالفنون الإسلامية، التي نراها في المنمنمات والمقامات، وكذلك في الزخرفة في الجوامع والعمارة الإسلامية. (13)
يقول الباحث في التراث الدكتور خير الله سعيد، مؤلف «موسوعة الوراقة والورّاقين في الحضارة العربية الإسلامية» ، «إن الوراقة مهنة إسلامية حصراً، وهكذا، فإن أوّل كتاب نَسَخهُ الورّاقون هو القرآن، وبالتحديد في جامع المنصور».
من هناك نشأت مجالس «الإملاء»، التي أنتجت الموسوعات الكبرى مثل «أمالي بن حجر العسقلاني»، و»أمالي بن عساكر». هكذا كان المسجد بمثابة أول (مطبعة) عوضاً عن كونه أوّل مجلس فقهي وفلسفي. والإملاء، هي النهج الوراقي المتّبع يومذاك في تدوين الثقافة على العامّة، إذ يُملي الشيخ على طلابه الموضوع، وهم يدوّنونه».
لم يكن السوق مطبعة فحسب، بل مركزاً لتعليم اللغة العربية والعلوم الدينية، ورافداً لتصدير الكتب إلى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، يقصده الشعراء والكُتّاب والفلاسفة بوصفه سوقاً للنشر، ومكتبة فريدة في الوقت نفسه، ومُعيناً لا غنى عنه لدار «الحكمة».
من الشائع عن الشاعر المتنبي، اشتغاله عند أحد الورّاقين من أجل دراسة اللغة العربية وقواعدها، وكان مألوفاً حينها، ذهاب الشعراء إلى البوادي، لاكتساب الفصاحة والجزالة اللغوية، فحلّ سوق الوراقين عوض ذلك.
كان الجاحظ الذي مات بسبب سقوط مكتبته عليه، يستأجر دكاكين الورّاقين ليبيت فيها، في علاقة فريدة مع الكتب والعِلم والمعرفة. فأي علاقة مصيرية هذه مع الكتب والتأليف والنشر؟
أشهر الورّاقين
اشتغل بمهنة الوراقة، أشهر الكُتّاب والعلماء والقضاة، أو بالأحرى كل أديب أو قاضٍ، لم ينخرط تزلّفاً إلى السلطة العباسية، لكسب قوته اليومي، وتحقيقاً للاستقلالية الأدبية والاجتماعية، وأبرزهم الكاتب أبو حيان التوحيدي، الذي كتب شاكياً «تمكّن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي، وتقييد خطي، وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف، بمثل ما يسترزق البليد الذي يمسخ النسخ ويفسخ الأصل والفروع».
وقد امتهن علماء وأدباء حرفة الوراقة إمثال:
• أبو الفتوح محمد ابن اسحق النديم، مصنف كتاب الفهرست.
• أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، عمل في نسخ الكتب والتجارة فيها.
وكتب عن الوراقين
• ذكر السمعاني في كتابه ( الأنساب) مجموعة من الوراقين.
• خصص خير الله سعيد في كتلبه ( وراقو بغداد في العصر العباسي) بابًا تحت عنوان: ( أعلام الوراقين)
ذكر عبد الباسط بن يوسف الغريب جملة من الوراقين في كتابه ( الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة).
ومن الذين عملوا في الوراقة المؤرّخ وكاتب السيرة وجامع الفهارس الورّاق المؤلّف ابن النديم، صاحب البيبلوغرافيا الشهيرة «الفهرست»، صدرت في 938 م، فضلا ًعن النحوي الشهير القاضي أبو سعيد السيرافي، الذي يقول عنه ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، «كان زاهداً لا يأكل إلّا من كسب يده، ولا يخرج من بيته إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم، إلّا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرها عشرة دراهم قدر مؤنته، ثم يخرج إلى مجلسه».
وثمّة قصة طريفة حول الكاتب الورّاق، ياقوت الحموي، صاحب «معجم البلدان» و»ومعجم الأدباء»، الذي اشتغل عند أحد الورّاقين بعد مجيئه إلى بغداد أسيراً، ولمّا رأى علمه وورعه، أعتقه.
وعُرف إمام الحنابلة في زمنه ابن مروان البغدادي (ت 403هـ) بـ»الوراق» لأنه كان «ينسخ الكتب ويقتات من أجرتها»، متعففا عن هدايا السلاطين، وورد أن الإمام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ) «كان ينسخ الكتب والمصاحف.. ويبيعها».
ومن الأمراء الذين «احترفوا» الوراقة -وهم في السلطة- السلطانُ نور الدين زنكي (ت 569هـ) الذي كان «يأكل من عمل يده فكان ينسخ الكتب»، ومن أبناء الملوك الأمير شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد الذي مارس نسخ الكتب -بعد زوال سلطان عائلته بإشبيلية- ووُصف بأنه «مثابر على نسخ الدواوين».
وفي عملهم الشامل والهائل هذا؛ كان الوراقون يتبارون في سرعة الخط والقدرة على نسخ المؤلفات الكبيرة؛ وقد قدّم لنا المراكشي تقديرات ورّاقي زمانه لأحجام الكتب فقال إن «المجلد اللطيف» (الصغير) يكون بحجم ديوان المتنبي (قرابة 5350 بيتا)، و»المجلد المتوسط» يكون قَدر ديوان أبي تمّام (نحو 7300 بيت)، و»المجلد الضخم» يضم 15 ألف بيت فأكثر، ولعل ثمة «المجلد الكبير» الذي سيكون وسطا بين «المتوسط» و»الضخم».
ومن صور التباري بين الوراقين؛ أن أبا الفضل محمد بن طاهر المقدسي الظاهري (ت 507هـ) كان يقول: «كتبت صحيح البخارِي ومسلم وابن داود سبع مرات بالوراقة، وكتبت سنن ابن ماجه بالوراقة عشر مرات»، وذكر النديم أن الفيلسوف المسيحي أبا زكريا يحيى بن عدي (ت 364هـ) «كان يكتب في اليوم والليلة مئة ورقة».
وقد يُفرّق الكتاب -خاصة إن كان ضخما- على عدة وراقين طلبا لسرعة الإنجاز؛ كما حصل حين استأجر ابن أبي شيبة (ت 235هـ) عشرة وراقين لينسخوا له كتابه العظيم «المصنَّف»، ووُزّع «تاريخ دمشق» (وكان 80 مجلدا) للحافظ ابن عساكر (ت 571هـ) على عشرة وراقين فأكملوا نسخه في سنتين، وهي «مدة معقولة طبقا لمعايير الوراقين»؛ كما يقول المستشرق فرانز روزنتال، وكان ابن الحطيئة الفاسي كان يتقاسم نسخ الكتاب الواحد مع زوجته وابنته.
نساء وراقات
وقد عملت المرأة إلى جانب الرجل في مهنة الوراقة ناسخةً أو مساعِدةً؛ ففي الأندلس يروي عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) عن المؤرخ الأندلسي أحمد بن سعيد ابن أبي الفياض (ت 459هـ) أنه «كان بالرَّبَض (الجانب الشرقي من قرطبة) مئة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا ما في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها؟»، وكانت ورقاء بنت ينتاب الشاعرة الطليطلية (ت بعد 540هـ) من الناسخات المُجيدات.
وفي العراق شرقا؛ ذكر أبو العلاء المعري (ت 449هـ) -في «رسالة الغفران»- الجاريةَ «توفيق السوداء التي كانت تخدم بدار العلم ببغداد» أيام البويهيين، وكان من مهمتها مساعدة الوراقين بأن تُخرِج «الكتبَ للنُّسّاخ»، ولعلها كانت تورّق أيضا.
وفي عام 1928م؛ حدّث الكاتب والمؤلف العراقي عبد اللطيف جلبي (ت 1945م) أنه رأى بجامع الحيدرخانة ببغداد نسخة من قاموس «الصحاح» لأبي نصر الجوهري (ت 393هـ) نسختها امرأة تدعى مريم بنت عبد القادر (القرن 6 هـ)، وكتبت في نهايتها عبارة مؤثرة هذا نصها: «أرجو من وجد فيه سهوا أن يغفر لي خطئي، لأني كنت بينما أخط بيميني كنت أهز مهد ولدي بشمالي»!!
وروى المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) أن أبا العباس بن الحطيئة الفاسي (ت 560هـ) «نسخ الكثير بالأجرة [في مصر].. وعلّم زوجته وابنته الكتابة فكانتا تكتبان مثل خطه سواء، فإذا شرعوا في نسخ كتاب أخذ كل واحد جزءا وكتبوه، فلا يفرِّق بين خطهم إلا الحاذق». (14)
والجدير ذكره، أن مهنة الوراقة ساعدت الكُتّاب والأدباء المشتغلين بها اطلاعاً على الآداب والعلوم والمصنّفات، ما ترك أثراً واضحاً في نتاجاتهم. (15)
قال ابن الجوزي في ترجمة الحافظ أبي العلاء الهمذاني: «وبلغني أنه رُئي في المنام في مدينة جَميع جُدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تُحدّ، وهو مشتغل بمطالعتِها، فقيل له: ما هذه الكتُب؟ قال: سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدُّنيا، فأعطاني»، وفي السياق ذاته يقول بورخيس «لطالما تَخَيّلت النعيم مكتبة، بينما يُفكّر الآخرون بحديقة أو قصر».
أحرق أبو حيّان التوحيدي كتبه، ولكنها ظلّت حاضرة في القلوب والعقول، كما قام أبو سعيد المؤذّن بإغراق كتبه، وثمّة حكايات طريفة في «ألف ليلة وليلة» عن الكتاب المسموم والكتاب الغريق.
الوراقة ونسخ القرآن
من الناحية التاريخية؛ ارتبطت «الوراقة» في بدئها بوصفها مهنة باحتراف نسخ القرآن الكريم تكسُّبًا، فقد ذكر النديم (ت 384هـ) في كتابه ‘الفهرست‘ أن الناس «كانت تكتب المصاحف بأجرة»، وكان أول من عُرف بتخصصه في ذلك عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب، لكن النديم عزا إلى المؤرخ محمد بن إسحق (ت 151هـ) أن «أول من كتب المصاحف في الصدر الأول، ويوصف بحسن الخط هو خالد بن أبي الهياج»، لعمله «ورّاقا» للخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ)
ومع أواسط القرن الثاني؛ انضم إلى نسخ القرآن جمعُ الحديث النبوي، وتوثيقُ فتاوى الصحابة والتابعين، وتدوينُ لغة العرب وأشعارها؛ فظهرت «مصنفات» في شتى العلوم، ومن أوائل تلك المؤلفات -مما وصل إلينا نصُّه موّثقَ النسبة- «الموطأ» للإمام مالك بن أنس، و»الرسالة» للإمام الشافعي، و»المبسوط» للإمام محمد بن الحسن الشيباني، و»الكتاب» في النحو لسيبويه الفارسي، وقاموس «العين» للفراهيدي، و»مختارات» من أشعار العرب مثل «المفضليات» و»الأصمعيات».
وأدت كثرة طلاب العلم وازدياد انشغال العلماء بإقبالهم على التأليف إلى اتخاذ بعض الأئمة «ورّاقاً» أو »كاتباً» خاصا به كما اتخذ كل شاعر «راوية» لديوانه؛ فكان مثلا حبيب بن أبي حبيب وراقا للإمام مالك (ت 179هـ)، وعُرف محمد بن سعد (ت 230هـ) بأنه «كاتب الواقدي» المؤرخ (ت 207هـ).
وقد انتشرت لاحقا عادةٌ عمّت جميعَ طبقات العلماء والأدباء بل وحتى الخلفاء والأمراء، وهي اعتماد وراقِين محددين كما يعتمد المؤلفون الكبار في عصرنا ناشرا معينا لطباعة كتبهم، فقد كان محمد بن أبي حاتم وراقا للإمام البخاري (ت 256هـ)، وأحمد بن محمد النِّباجي وراقا للإمام يحيى بن معين (ت 233هـ)، وورد أن الخليفة العباسي المعتمد (ت 284هـ) «كان له وراق يَكتب شعره بماء الذهب».
وقد يكون لبعضهم وراقان كما كان للواقدي ولأبي عُبيد القاسم بن سلام مؤلف كتاب «الأموال» (ت 224هـ)، ولأبي داود (ت 275هـ) صاحب «السنن» وراقان أحدهما ببغداد والثاني بالبصرة، وللجاحظ (ت 255هـ) وراقان: أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى وأبو يحيى زكريا بن يحيى. (16)
سوق الورّاقين المعاصر
يقول أحد العاملين بالتجليد، وهو ذو سردية طويلة مع عالم التجليد وتذهيب الكتب، مقتفياً عصرها الذهبي، «أحببت مهنة تجليد الكتب، وكانت مصدر رزق عائلتي، إذ اشتغلت بها منذ ستينيات القرن المنصرم، ولطالما عملت نسخاً إلى وزراء ومسؤولين في الدولة العراقية، وكان والدي معتمَداً لدى أعيان العهد الملكي، بينما يتغاضى الجيل الجديد عن مهنة الوراقة التقليدية، وعن فنيّة هذه المهنة». و يتابع: «لدينا ماكينات للكبس اليدوي والجرافيك، وأحبار للتذهيب وهكذا، فنحن بمرتبة الفنانين سواسية».
ويقول باحث آخر: شهد السوق خطوة أكثر إبهاراً بدخول مطبعة حكومية وضعت أساساً في إسطبل لخيول الجندرمة عام ( 1341 هجرية / 1923م) وكان هذا المكان من أوقاف السيد محمد أمين الطبقجلي، ولكن الحكومة العثمانية اشترته منه بثلاثين ألف روبية، وبلا شك فإن السوق ذاته امتلك شرعية وجوده هذه المرة بوجود مطبعة حكومية قضت على النسخ البطيء بدخول هذه الآلة، مع أن النسخ بالأصابع ظل إلى وقت طويل هو الطريقة المباشرة للكتابة واستنساخ المخطوطات التي تجود بها قرائح الشعراء والعلماء والأدباء وأهل المعارف، وكان هذا التطور العلمي مناهضاً لروح البراءة والعفوية في الكتابة الخطية، لكنه كان واقعاً لا مفر من الإقرار به. (16)
الهوامش والمصادر
1- الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد) ، ج 1 ، ص 360
2- محمود شكري الآلوسي (تاريخ مساجد بغداد وآثارها) ، ص 66 ، مطبعة دار السلام في بغداد : 1346 هـ
3- صفاء الزبيدي (شارع المتنبي .. ملف بالصور والوقائع لتفجير الشارع) ،
4- صفاء الزبيدي ، مصدر سابق ، ص 21
5- صفاء الزبيدي ، مصدر سابق ، ص 22
6- العالم الإسلامي وصناعة الورق في العصور الوسطى ، موقع مجلة العربي.
6- موقع مجلة العربي، مصدر سابق
8- بركات محمد مراد (الورقة والوراقة والوراقون في الثقافة العربية) ، موقع ألوكة https://www.alukah.net/ ، 1 كانون الثاني 2013
9- وداد جودي (أسواق الوراقين في بغداد خلال العصر العباسي) ، ص 46 ، الجزائر : 2016
10- وداد جودي ،مصدر سابق ، ص 45 ، الجزائر : 2016
11- بركات محمد مراد (الورقة والوراقة والوراقون في الثقافة العربية) ، موقع ألوكة https://www.alukah.net/ ، 1 كانون الثاني 2013
12- بركات محمد مراد ، مصدر سابق
13- علي عباس (الوراقة في بغداد .. حرفة المثقفين في زمن العباسيين) ، موقع الشرق ، في 29 كانون الأول 2023
14- ناديا البنا (الوراقة والوراقين .. حكاية صناعة الكتب قبل ظهور الطباعة وأقدم أسواقها) ، موقع أخبار اليوم ، 5 آذار 2021
15- علي عباس ، مصدر سابق
16- ناديا البنا ، مصدر سابق
16- وارد بدر السالم (سوق الوراقين .. رائحة حبر عمره سبعة قرون) ، موقع البيان ، في 26 شباط 2006