من أوراق مكة..إلى الرسول القائد
عباس الجبوري
في القطار السريع من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وهو يلتهم المسافة بين المدينتين البالغة (٤٠٠كم) بزمن مريح (ساعتين ونصف الساعة) ..وانت من النافذة ترى ماترى.. وتراجع ما ترجع.. وتسأل الصحارى والجبال فيجيبك التاريخ بلباقة حانية وبلسانٍ عربيٍ مبين ..شعراً عتقته الايام فصار حلاوة وانساً للمسافرين..بعد عرفة ومنى وزمزم والحطيم..
(ولما قضينا من منىً كلَّ حاجةٍ….ومسّحَ بالاركانِ
من هو ماسحُ..
أخذنا بأطراف الاحاديثِ بيننا.. وسالت بأعناقِ المطيِّ الاباطحُ) ..كانت البيداء تذوب من حديث المسامرين من ندى الوصل الذي يبلل الدروب برذاذ الشوق الغزير ..
من هنا الطريق الى (غار حراء)..اخبرني مسافر محلي بلهفة الاخبار..نعم الى غار حراء..فحاولت ان ..ولم أستطع …ثم حاولت ..وللمحاولة لذة تشبه الريادة ولو من بعيد…
الى الان (حمامة الشرف) تقف على الباب تسرد للمارة شوق الساعات التي قضتها وتحت جناحها (سر التحول) العظيم بوفاء وهي تلاعب بيضها ل(تسحر) عيون القساة المملؤة بالخناجر والاوهام ..
وكان هناك عنكبوت..قلوب صغيرة وطاهرة تنافست بصدق لتصنع (الاستثناء) للحياة عبر العصور.. بينما النبي يبتسم لهما (للحمامة والعنكبوت) وهو يتمتم سورة الخلاص والاخلاص بسكون عميق ..كانت لحظات تزلزل الوجود..وكان ثقلاً يرهق الطود العظيم..
تمددت ساقا النبي المتقرحتان من طريق النجاة على قدمي الجمرفي غار تحيط به خيول الموت وسيوف الجهل من كل صوب ..وأصوات النفاق يتطاير منها وعيد بالقتل المريع..
يردد معظم من الحجاج الذين التقيتهم بانّ المدينة المنورة تختلف بكل شي عن سواها من المدن بهوائها بوجوهها بأسواقها بتمرها وترابها..فهم يشمون في ترابها عطر (الخُلقِ) النبوي الذي (خلله) القران بين آياته مختصرا الكثير من النعوت والاوصاف(وانك لعلى خلق عظيم..)..هذا الخلق العطر الذي يتعطر به الفقراء كل يوم..ويتنفسه المصلحون زاداً في الطريق.. ويتلمسه ويجده العشاق باليد والانف والروح (اني لأجد ريح يوسف..) كان عطراً وكانت مسافات ..لكن المحب المنتظر للقاء كانت رئتاه تمتلئان ناراً وشوقاً وزقزقة عصافير..
صور كثيرة
الى المسجد النبوي..بين قبري ومنبري (روح وريحان وجنة نعيم)..اسطوانة التوابين..وصورٌ كثيرة على الجدران والاعمدة والمحراب ..هنا صلى..وهنا بكى..وهناك جلس على أرض المجلس (كأحدنا..)..وهنا علّم الاسارى القراءة..ومن هنا طرد (القسوة) بخطابٍ ونبلٍ و(ليونة) ترقق الصخور..وتصافح الوجوه والايادي بكلمات ساحرات تهبط لها القلوب.. وفي هذا المسجد تقافزت البراعم وسقيت ونمت بعرق العزم والصبر ..بكرم وفير..
كان يمر على حلقات العلم فيأنس بها كنحلة ٍ أنست مياسم الزهور وهو يردد(هذه المجالس أحبها..) لانها تزيل رين القلوب وصدأ النفوس بحديث العلم النافع ..
وقبل ان يخرج من المسجد رمى كعب بن زهير نفسه على يدي النبي يقبلهما بندم التائب من الزمن المباد وهو يردد قصيدته (سعاد..)بنشيج حجازي رفيع..
(بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ….متيمٌ اثرها لم يفد مكبولُ..) حتى اذا وصل الى..
( هيفاءُ مقبلةّ عجزاءُ مدبرةّ….لم يشتكي قصرٌ منها ولا طولُ) لم يعترض عليه أحد ..بل حفظها معظم الحاضرين..كان رحمة .. وكان للجميع ..
مررنا على بقايا مشاهد..وتلفتت مشاعرنا على أطلال بدر .. ووقفنا عند أحد ..هنا معركة احد ..وجبل احد .. وساعة الالتفاف على ظهر النبي .. وهنا تقطعت الانفاس حين..سقط الحمزة.. برمح وحشي خبأته الجاهلية لهذا اليوم لتنتقم من الكبرياء العظيم بغدرٍ متوارث..
وقف الحجاج العراقيون يبكون الحمزة.. لان (الحمزة لابواكي له..) وتلك رسالة حملها العراقيون برموشٍ تدمع بسخاءٍ على مر العصور..لقد وفى الحمزة ببيعته..
و وفى المحبون لرغبة النبي القائد الذي كان يرى الحمزة في كل السيوف…فيشتاقه.. وترك له سطرا ً في وصيته..(من زارني ولم يزر عمي الحمزة فقد جفاني..).. كانت قبوراً..
وصارت ملاذاً..(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) ..وعلامات ولو بقيت حفنة من تراب..