بعث لي صديق عزيز كان يشغل موقعاً قيادياً في الحزب والدولة، قبل أيام رسالتين من فيدل كاسترو الى صدام حسين. إحداهما مؤرخة في 2/8/1990 والأخرى في 4/9/1990 . كلتا الرسالتين تركز على خطورة ما قام به صدام بإحتلال دولة صغيرة وجارة للعراق ويحثه على الإنسحاب منها فوراً وأن لا يدع مبرراً لأمريكا التي نجحت في بناء تحالف عسكري قوي يضم إضافة الى حلف شمال الأطلسي، قوات عربية وإسلامية لضرب العراق وتدمير قوته العسكرية وبنيته التحتية التي بناها العراق طيلة سنوات. ويطلب منه التجاوب مع ما تطلبه منه الغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأُمم المتحدة وذلك بالإنسحاب من الكويت وإيجاد حل سياسي للأزمة مع الكويت، وأن لا يرى هذا الإنسحاب نوعاً من الإذلال أو فقدان الشرف.
ويضيف كاسترو أن الحرب ستندلع من دون أدنى شك في حال لم يقبل العراق بحل سياسي وأن هذه الحرب ستكون تدميرية لمجمل المنطقة خصوصاً العراق وستقسم العرب لسنوات طويلة وأن أمريكا ستسفيد منها لإقامة مواقع عسكرية في المنطقة ولمدة غير محددة. وهذا هو ما حصل ولا يزال حاصلاً الى يومنا هذا.
أعادتني هاتان الرسالتان الى يومي 2/8/1990 يوم إحتلال الكويت، و 17/1/1991 يوم إندلاع الحرب على العراق لتحرير الكويت حينما كنت أشغل وظيفة المستشار الثقافي في سفارة العراق في موسكو عاصمة الإتحاد السوفياتي السابق. إضافة الى وظيفتي فقد كنت عضواً في قيادة التنظيم الحزبي وكان السفير أحد أعضائها ايضاً، وكان يُطلعنا على بعض ما يدورمن مفاوضات بين الجانب السوفياتي والوفود العراقية التي كانت تحج الى موسكو طلباً للمساعدة والوقوف بوجه أمريكا وتحالفها الدولي قبل اندلاع الحرب، كما كانت بعض الأخبار تتسرب الينا من قبل المترجمين.
في تلك الفترة زارتنا وفود عديدة من العراق. أول وفد زارنا في آب 1990 كان مكوناً من السيدين طارق عزيز نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وسعدون حمادي وزير ورئيس اللجنة الإقتصادية في مجلس الوزراء، يعتبران أثقف عضوين في القيادة! عقدا لقاءً مع موظفي السفارة كافة. قدم السيد طارق عزيز شرحاً لأسباب إحتلال الكويت، ثم قدم السيد حمادي نظرته الى الوضع الإقتصادي للعراق بعد سيطرته على نفط الكويت، وأضاف أن الدخل السنوي للعراق من النفط سيكون 60 مليارا بأسعار ذلك الوقت. ورداً على سؤال كيف سيستطيع العراق من بيع نفطه وهو مكبل بقرارات مجلس الأمن الدولي التي جمدت أموال العراق في البنوك الأجنبية ومنعت أي دولة من شراء نفط العراق أوإجراء أي تبادل تجاري مع العراق، فأجاب حمادي أن العالم لا يمكنه الإستغناء عن النفط لأكثر من ستة أشهر والعراق يمكنه العيش من دون أن يبيع نفطه لمدة سنتين، فبالتالي سيضطرون للتعامل معنا بعد انتهاء الستة أشهر.
في المساء كانت هناك دعوة عشاء في بيت السفير العراقي للوفد. قبل العشاء أستغليت أجواء الدعوة حيث كان السيد طارق عزيز يوزع إبتساماته للمدعوين. أقتربت منه وقدمت له نفسي، قال أعرفك، سألته سيادة الوزير كيف سيستطيع العراق الوقوف بوجه هذه القوات والأساطيل التي أخذت تتجمع في الخليج؟ أجاب وهو ينفث سيكاره الكوبي، الذي يكفي ثمنه لإعالة عائلة عراقية لمدة شهر في أيام الحصار، هذه كلها جعجعة سلاح لن ترهبنا. أستغربت من هذا الجواب الذي سأسمعه مرةً أُخرى من السفير العراقي نقلاً عن صدام حسين قبيل اندلاع الحرب بأيام.
في اليوم التالي قابل الوفد الرئيس السوفييتي ميخائيل كورباجوف. أستهل الحديث طارق عزيز الذي ذكر له اننا لدينا معاهدة دفاع مشتركة وبالتالي على الاتحاد السوفييتي الوقوف الى جانبنا إذا إندلعت الحرب مع أمريكا. أجابه الرئيس السوفييتي هذا لا يعني انكم تتصرفون بمعزل عنا. دخلتم الحرب مع إيران ولم تأخذوا رأينا، والآن تحتلون الكويت ولم تأخذوا رأينا أيضاً، ولو أخذتم رأينا مسبقاً لنصحناكم بعدم دخول الحربين. كان الأتحاد السوفييتي في تلك الفترة يشهد انتهاء الحرب الباردة مع الغرب وخصوصاً أمريكا ويبدأ حملة الإنفتاح على الغرب والتي سُميت البيروسترويكا. ويضيف الرئيس السوفييتي، على العراق أن ينسحب فوراً من الكويت وهو يتعهد برفع كافة العقوبات الإقتصادية عن العراق. بدأ طارق عزيز يتحدث وكأنه دولة عظمى، قائلاً إذا الأمريكان اعتدوا علينا فسنَّروي الصحراء بدمائهم. أجابه كورباجوف هل تعلم حجم القوات الموجودة في الخليج؟ هذه القوات معدة لمجابهة حلف وارشو ونحن لا نستطيع الوقوف بوجهها فكيف بإستطاعة العراق الوقوف بوجهها. أستمر طارق عزيز في عنترياته مذكراً كورباجوف بالحرب الإيرانية العراقية، وكيف انتصر العراق فيها، فأجابه كورباجوف هذه أمريكا ومعها حلف شمال الأطلسي وليست إيران.
لم تسفر الزيارة عن اي انفراج في الأزمة لعدم قدرة الوفد من اعطاء اية تنازلات دون العودة الى رئيس النظام وعاد الوفد من حيث أتى.
في فترة تجمع القوات في الخليج زارتنا عدة وفود من البنك المركزي ومن وزارة التجارة، اتحاد النساء، ومنظمات مهنية أخرى كلها تنشد الدعم السوفييتي.
في الأسبوع الأخير قبيل اندلاع الحرب، استدعى الرئيس العراقي سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكنت أعتقد أن ذلك يمهد لإنسحاب العراق وتجنيب البلد ويلات الحروب التي لم يمر على آخر حرب سوى سنتين.
عاد السفير قبل يومين من بدء الحرب وطلب مني أن أكون في استقباله في المطار. أخذ يقود سيارة السفارة وأنا بجانبه وبادرته بالسؤال هل هناك انسحاب أجاب: لا يوجد انسحاب وأن الرئيس أخبرهم انها مجرد جعجعة سلاح ولن تثو رأية إطلاقة، وكتأكيد على عدم الانسحاب قال لهم أنه: مستعد للتفاوض على محافظة صلاح الدين ولا يتفاوض على الكويت. لا أدري من ضمن للرئيس العراقي أن لا تثور طلقة! هل هي الدولة العميقة التي فرضته على العراق وورطته بهذا المستنقع؟ قلت: يا سيادة السفير لكن هذا انتحار والعراق سوف يدمر. ردَّ عليَ: أرجوك لا تتحدث بهذه اللغة هناك معلومات ضدك في بغداد بشأن ما تصرح به حول احتلال الكويت.
ما هي إلا يومان وبدأ الهجوم الجوي على العراق. كان لدي في البيت جهاز لإلتقاط محطة س ن ن الأمريكية. فتحت التلفاز لأشاهد القنابل تتساقط على بغداد مثل المطر ودون انقطاع.
زارنا مرة أخرى طارق عزيز ومعه سعد مجيد الفيصل وكيل وزارة الخارجية الذي سبق له أن شغل منصب سفير العراق في موسكو. كان الجو شتاءً والثلوج تتساقط في موسكو كتساقط القنابل على العراق. جاء الوفد يسعى لتوسط الاتحاد السوفييتي لايقاف الحرب بعد عدة أسابيع من القصف الجوي. انطلقنا مع الوفد الى بناية الكرملين حيث كان الرئيس السوفييتي بالانتظار وكانت الساعة بحدود العاشرة مساءً. قال كورباجوف للوفد أن الرئيس جورج بوش كان معي على الخط وينتظر اعلان من العراق بالموافقة على الإنسحاب من الكويت وسيوقف الحملة الجوية. ردَّ طارق عزيز أنه ليس مخولاً بإعلان ذلك ، غضب كورباجوف من هذا الرد وقال إذن لماذا انتم هنا، أعلنوا الانسحاب وسنوقف الحرب. أمر الرئيس السوفييتي بتجهيز طائرة روسية تقل طارق عزيز الى بغداد لاخذ موافقة الرئيس العراقي بالإنسحاب والعودة خلال 48 ساعة. وحمّله رسالة بأن لا يدعوا الحرب البرية تحدث. عاد طارق عزيز ومعه ذلك البيان المهلهل الهزيل الذي أعلنه الرئيس العراقي والذي يتضمن مناقشة جميع الاحتلالات في العالم، كإحتلال إسرائيل لفلسطين، وإحتلال ايران للجزر الإماراتية وإحتلال سوريا للبنان وبعد ذلك نناقش إحتلال العراق للكويت، وبالتالي ضيعوا فرصة إيقاف الحرب مرة أخرى فاندلعت الحرب البرية.
وعندما سُئل شواركوف قائد الحملة الامريكية من قبل الصحفيين كيف تقيم صدام حسين كقائد عسكري أجاب أنه لا يصلح أن يكون جندياً وليس قائداً.
والآن ونحن نقترب من ذكرى إحتلال الكويت أستذكرالأحداث التي مرت طيلة الشهور الستة وتمر بي كأنها شريط سينمائي، وأتسائل إذا كانت هناك أسباب لإحتلال الكويت كما يدعي النظام فهل هناك اي سبب لدخول حرب تعلم جيدا انك خاسرها. أليس هذا إنتحاراً، أم أن أرواح آلاف الجنود الذين قتلوا في الحرب، وآلاف المعدات والطائرات، ومنشئات التصنيع العسكري التي دُمرت كلها لا يرمش لك جفن بسببها كما كنت تهدد الحزبيين في الإجتماعات الحزبية.
ألم يعترف نائب رئيس النظام عزة الدوري أن إحتلال الكويت كان خطيئة كبرى وعمل غير أخلاقي علماً انه هو الذي كان يقود المفاوضات مع الجانب الكويتي.
يقول الاستاذ طاهرتوفيق العاني في كتابه” إنهيارالعراق المفاجيء” الذي ألفه بعد خروجه من معتقل كروبر، في الصفحة 91 «قال لي برزان إبراهيم أمام المعتقلين عدة مرات لو أن الموساد الصهيوني استلم العراق لمدة ثلاثين عاماً وعمل بحرية لتخريبه لما جرى مثل هذا السوء الذي حصل في زمن حكم الحزب، وأعترف لي أنه كان يدفع باتجاه الإسراع بتنحية البكر وكان هذا خطأً كبيراً». واللبيب من الإشارة يفهم. علماً أنَّ أخوته رفضوا توديعه حينما أُخذ لتنفيذ عقوبة الإعدام.
وللأسف لا يزال بعض من البعثيين المغسولة أدمغتهم يمجدونه على صفحات الميديا ويعتبرونه رمزاً لهم بعد أن أنهى الحزب ودوره.
هيوستن