الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
علم النفس والأدب

بواسطة azzaman

علم النفس والأدب

صافي العمّال

 

يُعَد علم النفس من العلوم العشرة الأولى وفقاً لتصنيف اليونسكو، من حيث الأهمية والصعوبة، لأنه العلم الذي يهدف الى وصف السلوك الإنساني، وتفسيره، والتنبؤ به، ومن ثم التحكم به، وهو علمٌ يهتم بالسلوك الظاهر او الملاحظ، فضلاً عن السلوك الخفي غير الظاهر، المتمثل بمجمل العمليات المعرفية (حس، انتباه، إدراك، ذاكرة) وما يرافقها من عمليات معرفية اخرى (تخيل، تفكير، ترميز المعلومات وحفظها ومعالجتها، وكذلك اللغة).

  أن الأدب بشكل عام له كيان المستقل وله دوره في الحياة، يتمثل في الكشف عن مجموعة الحقائق التي تشكل علاقة الانسان مع ذاته ومع الاخرين ومع بيئته، وعليه فإن الأدب وعلم النفس منهجان متوازيان غير متداخلان في ارتياد الحقائق الحياتية؛ لكن علينا ان نَعي اننا إما أن ننشئ او نكتب أدباً أو نكتب علماً، فالميدان الصريح الواضح الذي يمكن أن تستغل فيه نتائج الدراسات النفسية هو ميدان النقد الادبي.

    اهتم علم النفس منذ بداياته الأولى بمفاهيم أخرى مهمة مثل: (الشعور واللاشعور، وما قبل الشعور)؛ فالشعور هو قسم من العمليات النفسيّة الواعية التي نشعر بها وندركها، وعادة يرتبط بحالة وجدانية انفعالية وقتية مباشرة، يمكن أن تظهر مرة ثانية في الشعور إذا ما توافرت لها شروط مماثلة. أما اللاشعور فأنه يحتوي على الدوافع الرئيسة لسلوكنا وهو مستودع القوى التي لا نستطيع رؤيتها أو السيطرة عليها، اذ يحتوي على الدوافع الغريزيّة البدائيّة الجنسيّة والعدوانيّة، وتنزع الدوافع والرغبات المكبوتة في اللاشعور إلى الإشباع والظهور من خلال الشعور، وكثيراً ما تلجأ في سبيل ذلك إلى طرق شاذّة ومُلتوية، ونجد ذلك واضحاً في الأمراض والاضطرابات النفسية، او في جوانب فنية وابداعية مختلفة. فيما يمثل ما قبل الشعور المساحة الكائنة بين الوعي واللاوعي، والذي يتضمن تلك الخبرات التي إذا ما استدعاها الوعي فأنها تأتي إليه دون صعوبة وتتمثل (بالخبرة).

    اشار فرويد الى ان هذا الصراع ينتج الابداع بكافة مجالات الحياة ومنها الادب والفن، كما تتولد من هذا الصراع ايضاً العقد والاضطرابات النفسية، وينتج الصراع من التضاد وعدم الاتفاق بين المتطلبات الرئيسية للشخصية، وهي: (الهو ID) وهو الجانب الغرائزي الحيواني في النفس البشرية، (والانا العليا Super Ego) التي تمثل الجانب المثالي (الضمير)، والمكون الثالث وهو (الانا – Ego)، الذي يحاول جاهداً السيطرة على طيش وتهور وعدائية، وغرائزية الهو، ومثالية وتصلب، وعدم مرونة  الانا العليا، وعند تحقيق الموازنة بين متطلباتهما فأن الشخصية عندها تكون واقعية ملتزمة متزنة.

يذكر فرويد ان الشعراء والادباء كانوا قد اكتشفوا اللاشعور قبل ان يكتشفه هو، ويكفي ان نتعلم من هاملت وغيرها الكثير! ومن المفيد الإشارة الى الاستعارة البارعة التي عمد اليها فرويد في توصيف عدد من العقد النفسية التي تصيب الشخصية الإنسانية، اذ استعارها بحرفية من الأساطير الاغريقية القديمة، فعلى سبيل المثال فقد استعار عقدة تعلق الابن بإمة (عقدة اوديب) من اسطورة يونانية قديمة، والتي استوحى منها تلميذه (يونك) عقدة (الكترا) تعبيراً عن تعلق الابنة بابيها.

تحليل نفسي

ان فرويد كان يعي بدرجة كبيرة القرابة الوثيقة بين التحليل النفسي والادب، في سعيهما المشترك وراء الحقيقة واهتمامهما بالدوافع الإنسانية، كما ان هناك من يرى من منظري التحليل النفسي ان النتاج الادبي للكاتب هو مجموعة إعراض نفسية مصاحبة لمراحل نمائية مختلفة، منها (المرحلة الفمية، والشرجية، القضيبية)، او انها ناجمة عن اضطرابات نفسية سادية او مازوشية، فالأسوياء من الناس من وجهة نظرهم لا يشعرون بحاجة قهرية للكتابة، او الشعر او الفن.

ومن جانب آخر وجد ان اللذة الحقيقية للكاتب والاديب والشاعر تكمن في نتاجه وابداعه الادبي، اما الناس الاخرين فانهم يرون ان الكاتب الذي لا يعاني فانه لا يمكن ان يبدع!! وانه يأخذ من ذاته (يستهلكها) ليعطيها الى لذته، وعليه إذا ما أردنا مساعدة الاديب والكاتب لكي يشفى من هواجسه هي ان نساعده على النكوص الى مرحلة الطفولة او الهواجس الطفولية. كما ان هناك علماء النفس آخرون يرون ان الكتابة الأدبية هي وظيفة اعلائية (تسامي) وأنها تخلّص مؤقت من كرب او ضيق نفسي واقعي يمر به الكاتب والاديب والشاعر، او انها ميكانزيم دفاعي ضد المازوشية (وهي التلذذ في إيقاع الأذى بالنفس) من خلال عدوان غير حقيقي او غير اصيل! يتم تفريغه في النتاج الادبي.

لا تقتصر الدراسة السيكولوجية للأدب على فرع واحد او مجال محدد من مجالات علم النفس، فالدراسة النفسية للأدب تهتم بها مجالات متعددة منها: علم النفس المعرفي الذي يهتم بالعمليات العقلية المعرفية للفرد، وكذلك علم نفس الشخصية الذي يهتم بالآليات النفسية التي تعمل بها الشخصية الانسانية، فضلاً عن علم النفس الفردي، والصحة النفسية، وفروع أخرى منها علم النفس التطوري أو النمو. وفي سبعينيات القرن الماضي ظهر مجال اخر يهتم بالأدب وخاصة الجانب السردي منه (القصص، والروايات والحكايات اليومية للحياة)، على يد عالم النفس الأمريكي ثيودور آر. ساربين في كتابه الصادر عام (1986)، وقد سمي بـ (علم النفس السردي Narrative Psychology)! اذ يشير الى ان كلمة سرد تستعمل للتعبير عن تجارب الحياة بطريقة هادفة وومتعة. وذكر فيه أن السلوك البشري يمكن تفسيره بشكل أفضل من خلال القصص، والروايات، والشعر كذلك، وأكد ان سيكولوجية السرد لا تتضمن نظرية واحدة أو نظرية محددة بدقة، بل تعتمد على مجموعة توجهات نفسية وفكرية متعددة، وان من الأهمية بمكان ان يكون هذا التفسير السيكولوجي من خلال البحث العلمي النوعي، لتعزيز توجهات مدرسة التحليل النفسي في تأكيدها على استخدام القص والسرد اسلوباً لمعرفة التاريخ النفسي والاجتماعي والمرضي للفرد، بعد ان ابتكر (فرويد) تكنيكاً سماه (التداعي الحر) الذي يفترض ان من خلال التنويم المغناطيسي، يمكن إعادة الفرد الى المراحل الاولية من طفولته، واتاحت الفرصة له بسرد قصة حياته واستدعائها من اللاشعور!

اهمية سردية

من جانب آخر أكد (برونر) على الأهمية السردية من خلال المعرفة العلمية التجريبية» وميّز بين شكلين للفكر غير قابلين لاختزال، وهما: وجود النموذج الفكري»؛ و»النموذج السردي». بمعنى وجود فكرة مع القدرة والامكانية على استعمال انموذج سردي معين لعرضها.

 ففي التفكير السردي يقوم الدماغ بتفكير تسلسلي، مرتكز على الفعل ومدفوع بالتفصيلات، ويأخذ التفكير هنا شكل قصص و”دراما مشوقة، اما في النمط النموذجي فإن الدماغ يتجاوز الجزئيات ليحقق معرفة نظامية وتصنيفية، وفرضيات مرتبطة بعمليات منطقية. اما عالم نفس الشخصية (آدامز) فقد عزز أهمية النهج السردي وطرح انموذجًا لقصة (حياة الهوية الذاتية) لوصف مستويات الشخصية، واستكشاف كيفية سرد التحولات الحياتية المهمة وكيف «تتلاقى الذات والثقافة معًا في السرد». فأصبحت المقاربات النفسية السردية مؤثرة في فهم الذات والهوية، اذ يمكن عند تحليل قصص الحياة استكشاف «وحدة وتماسك» الذات، او ما يعتريها من تفكك وتدهور.

 وفي الآونة الأخيرة، سعى علم النفس السردي إلى استخدام البحث الكمي لدراسة الاتصال والهوية، ودراسة الروايات للحصول على بيانات تجريبية حول الإدراك الاجتماعي والتوافق البشري وعمليات التكيف مع البيئة التي يعيشها الفرد، وهذا التوجه يقترب من منهج تحليل المحتوى المستعمل كثيرا في علم النفس.يفترض علم النفس السردي أن السلوك البشري، عبارة عن تجارب مليئة بالمعاني والقصص، كما يساعد الاديب او الشاعر على كيفية بناء القصص والروايات والشعر كذلك، وان القصص والسرديات والشعر هي نهجٌ اجتماعيّ بنَّاء يدرس الآثار المترتبة على تلك النتاجات الأدبية وغيرها في حياة الأفراد والمجتمعات، كما تمثل القصة والرواية في علم النفس السردي شكلاً من أشكال الهوية الفردية، اذ تعبّر عن طريقة تفكير الافراد في الحقائق والأحداث التي يمرون بها في حياتهم.

 ويستخدم علماء النفس السرديون المقابلات لإعطاء الفرصة لمن يتم مقابلته أن يقدّم سرداً مفصلاً عن حياته أو عن أحداث معينة، وبعدها يمكن كتابة هذه القصص او الروايات وتحليلها ومن ثم وصفها وتفسيرها. تأسيساً على مشروع الكُتّاب الفيدراليين عامي (1937-1938)، اذ قدَّم العبيد الأمريكيون من أصل أفريقي مساهمات كبيرة في علم النفس السردي فقد شارك ما يقرب من (300) باحث ميداني في عملية إجراء مقابلات مع أكثر (2000) من العبيد الافارقة في (17) ولاية امريكية لتكوين سرديات من قصص حياة هؤلاء العبيد، وخلال فترة ما بعد الحرب الامريكية الأهلية، وهي التي استخلص منها الكُتّاب فلكلور تلك الفئة من الناس (العبيد)، كما شكلت العمود الأساس لبناء الحكايات الشعبية الخاصة بهم.

 

  أكاديمي وكاتب


مشاهدات 316
الكاتب صافي العمّال
أضيف 2024/06/07 - 7:31 PM
آخر تحديث 2024/06/30 - 5:49 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 297 الشهر 11421 الكلي 9361958
الوقت الآن
الأحد 2024/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير