العسكرية المظلومة
فاتح عبد السلام
التاريخ العسكري “الشخصي” لم يجد له مساحة للكتابة في العراق حتى الان. في الوضع العام، لا يوجد مؤرخون حقيقيون لحقبة السنوات الخمسين الأخيرة، ولا يزال المؤرخون، ومعهم الأطاريح الجامعية، ماكثين في فلك اجترار معلومات تاريخية مستهلكة لا اكتشافات جدية فيها فضلا عن خلوها من المواضيع الجريئة.
هناك برامج على “اليوتيوب” و”الفيسبوك” تجتهد في تقليب صفحات الاحداث والرجال، لكنه يبدو عملاً شفاهياً تعتريه العواطف والانفعالات أحياناً، يحتاج الى تعزيز وثائقي دقيق لكتابة تاريخية يستحقها جيش العراق العريق الذي تكاد الطفيليات تتسلق على قاماته وتخنق ذكرها لأسباب سياسية، وطائفية، وشخصية، وسواها.
في التاريخ الطويل والغني بالأحداث بين حروب وانقلابات، يكون للجنود العاديين قصص وقراءات تستحق ان تنال قسطا من الأرشفة والتوثيق، فالتاريخ العسكري لن يكون مقتصرا على القادة البارزين، بل يشمل الضبّاط الصغار والمراتب، ذلك انّ المعارك في انتصاراتها وانكساراتها كانت من صنيع ذلك التلاحم بين الضبّاط والمراتب على تراب الوطن، لاسيما في المنعطفات المثيرة.
جميع الضبّاط لاسيما آمري الألوية والأفواج والسرايا وقادة الفرق والفيالق وضبّاط استخبارات الوحدات، الذين أعدمهم النظام السابق في ظروف الحرب مع ايران أو في حالات خارجها، او أولئك الذين استشهدوا دفاعاً عن ارض العراق في جميع المعارك على حدود البلد او في ساحة حروب فلسطين سابقاً، او الذين قتلتهم وأعدمتهم أحزاب المعارضة العراقية السابقة في الهور والجبل وهم يؤدون واجبهم العسكري المهني، او الضبّاط والمراتب الذين واجهوا ببسالة ومن منطلق الوطن الواحد، الإرهاب المستحدث بعد احتلال العراق، إنّما كانوا جميعاً علامات مضيئة، في التاريخ العسكري للجيش العراقي، ولهم حكايات من الممكن أن تُسجل وتتحول دروساً في الكليات العسكرية او في المشهد التعبوي العام لقيم الوطنية والرجولة والعسكرية.
اقرأ عن ضابط عراقي أُستشهد بعد نفاد عتاده وهو برتبة قيادية، ونائب ضابط ارتقت روحه وهو يمسك بالرشاشة الرباعية حاصداً العشرات من عناصر ارادت اختراق ارض العراق حتى تمكّنوا منه وقتلوه في حين كان بالإمكان أخذه اسيراً. وضابط برتبة عميد ركن يعبر النهر سباحة متقدما جنوده الى ضفة النار المقابلة من دون أن ترمش له عين، هؤلاء ليسوا أرقاماً جرى عدّها ومضت، وانّما هم نسيج حيوي في تاريخ هذا البلد وشرفه وكرامته، لا يمكن التنكر لهم لأسباب سياسية او تحت بنود لتُهم ساذجة لم تحصل في أي بلد في العالم يحترم دماء أبنائه النازفة على ترابه في أية حقبة زمنية. بعد ذلك نستطيع تفسير معنى انّ الجيش سور للوطن.