عار في جبين المرحلة.. إنتحار الفتيات
عبد المنعم الاعسم
في الاخبار الرسمية ثمة 30 امرأة عراقية شابة تُطلّق في المحاكم خلال اليوم الواحد، مقابل 30 شابة عراقية تقتل نفسها انتحارا في كل شهر، باطلاق النار، أو إلقاء النفس من شاهق جسر الى النهر، ما يلزم ان نبارك لساسة المرحلة وزعاماتها وطواويسها وكل من صعد الى مسرح ملهاة الحكم هذا «المنجز» الكبير الذي سيضاف الى «منجزات» هائلة تحققت على ايديهم طوال عقدين من الزمان، من ضياع ثروة العراق الى سرقة القرن حتى هذه الكارثة التي تصيب قلب المجتمع العراقي بالصميم.
ولهذه التهنئة ما يبررها في ان القضاء (كما هو حال الحكومات) غسل يديه من «هذه المشكلة» التي تدخل في قوام مسؤولياته في رصد ومتابعة الجرائم التي لا يرتكبها جانٍ بعينه، حيث يتولى الضحايا قتل انفسهم، أو القاء انفسهم الى مصير مجهول هروبا من زيجات بالاكراه، او زواج مبكر بالرشوة أو النهوة أو الاضطرار فيما منظومة الحكم اغلقت متنفسات الحياة والتوظف والفرص امام اجيال الفتيات الخريجات والمتعلمات والارامل القادرات على العمل ممن لا يملكن «الواسطة» او «الخدمة» في احزاب السلطة، فيجبرن على الزواج الاضطراري او تعطيل طاقاتهم الخلاقة وتصريفها بين البطالة والكآبة وانتظار الفرج وقبول حياة السجن المنزلي والعوز والاستسلام الى الشعور بالخيبة والعجز، مع امراض مستديمة من الفصام والضياع والملامة، وينتهي الحال بالبعض منهن الى العقاقير المّسكّنة والمدمرة في ذات الوقت.
وبدلا من الاتجاه لدراسة مصادر وتداعيات محنة الشابات العراقيات، في بعدها الاقتصادي والاجتماعي وعلى اساس علم نفس المجتمع، وتوفير الحلول الواقعية، اتجهت الدولة الفاشلة الى مستويين خائبين من التعامل، الاول في ترويج فتاوى دينية قديمة بتحريم (وتجريم) الانتحار وتحميل الضحية وزر النكبة التي المّت به، والثانية وضع ملف هذه الظاهرة المعقدة في عُهدة «العشيرة» او اجهزة الامن والشرطة التي غالبا ما تكون تقاريرها وتحقيقاتها تبريرية وشكلية.
ان عقولنا، محدودة السِعة، ونافرة، امام هذه المفارقات السوداء التي تختلط فيها ذنوب نظام التمييز مع ذنوب مجتمعية تتجسد في سطوة العشيرة مقابل سلبية شباب ساخط على ما يجري، وعلى نفسه، في حين تعطينا حشوة هذه المفارقة نتائج مخيفة لسياسات منهجية، متعمدة، لاغلاق ابواب المستقبل امام هؤلاء هذا الجيل من النساء وتركه بلا أمل، حيث فوجئنا بهذا العدد الكبير من الضحايا، بل ان المدونات الرسمية لمفوضية حقوق الانسان المحلية اعترفت بوجود «حالات كثيرة لم تُدون» وعزا مسؤول فيها ازدياد حالات الانتحار بين الشباب إلى الأزمات «الاقتصادية والاجتماعية» مطالبا بمعالجة ظاهرة البطالة بين هذه الشريحة.
كان راسكولينكوف، بطل رواية دستويفسكي «الجريمة والعقاب» قد فكر مرة واحدة بالانتحار، صارخاً ازاء ما يعانيه من مهانات واذلال وعطالة عن العمل: «لم يعد في وسعي التحمل..اعطوني البندقية..».