كلام أبيض
نصف الحقيقة
جليل وادي
ليس من عادتي المجاملة على حساب الحق ، نعم ، قد تكون هناك أشياء يتعذر قولها على كاتب مثلي ( يمشي جنب الحيط ) كما يقول المصريون ، فما يطرق أسماعك او تقرأه في دويلات المدن هو نصف الحقيقة ، لا سيما في الشأن السياسي ، واذا أيقنت ان ما اطلعت عليه هو الحقيقة ، فتأمل فيها ستجدها بلا أسماء ، لا تعرف من قام بها او المسؤول عنها او المقصود بها ، ولك أن تؤلها كما تشتهي ، ومن تأويلاتك ما يجافي الحقيقة نفسها .
كل ذلك يأتي تحسبا ممن هو أقوى من الدولة ، وممن يرى في نفسه العارف بكل شيء، وممن أكسبه المنافقون والمستفيدون ما لا يستحق ، فصدّق نفسه ، وبات ( يذبح بالقطنة ) ، لكنه يجهل ان الأيام دول ، وسقوطه سيكون مدويا في يوم لا صاحب فيه ولا صديق ، الكل يفر من حوله ليلتفون على غيره وجدوا وليمته أدسم وليس صلاته أتم ، لذا لا تستغرب ازدواجية الشخصية التي نحن عليها ، هكذا جبلنا على مر التاريخ ، وليس غير رجال السياسة والدين من جعلنا بهذه الحال ، فحذار من هؤلاء الا من دخل قلبك ، فالقلب لا يكذب أبدا ، طبعا يُراد بالقلب العقل وليس مضخة الدم ، وهذا هو معنى القلب في نصوصنا المقدسة .
في دويلات المدن : الحقيقة التي بمقدورك قولها تلك التي لا يتلمس منها الفاعلون في حياتنا تقليلا من الشأن او انتقادا على سلوك ، كن حذرا في لغتك ، وتحسب من أن يكون قولك قابل للتأويل ، فقد يُفسر بما لا تقصد ، ويذهبون به الى معان لا تحصد منها الا الرعب ، فتُحرم نوم ليلك ، وتضيق بك الواسعة ، فتفر بجلدك اذا كان ذلك متاحا ، ريثما يهدأ الانفعال ويقل التوتر ، وتتلاشى صورتك عن الأنظار ، ويطوي النسيان بعض ما قلت ، وتجد من يدخل وسيطا لترطيب الانفعال ، والقسم بأغلظ الأيمان انك لا تقصد ما فهموه ، وتقديم الولاء والطاعة ، وقل التذلل ان أردت .
لا نريد الحقيقة ، نلتذ بالمديح وان كان كاذبا ، وبالنفاق وان كان واضحا ، وان يمشي الآخرون خلفنا وان كان لمصلحة وليس ايمانا بقيادتنا ، لذلك نصحنا السيد نيتشة بضرورة مشاركة الناس أوهامها ، فأول الضحايا اولئك الذين يقولون الحقيقة ، فلا تغرنك الشعارات ، والادعاء بالديمقراطية ، فالديمقراطية غير المعززة بالوعي والايمان والثقافة فوضى ، يلعب فيها ( أبو الدلفري ) كيفما يشاء ، والزاحفون للسياسة من غير أهلها ، والباحثون عن المناصب أكثر من بحثهم عن وطن معافى .
الحقيقة ألد أعداء هؤلاء ، فما بالك بمن يقولها ، نعيش في العلن وسط أنصاف الحقائق ، والنصف الآخر في دواخلنا ، لا نستطيع اظهاره ، نكذب عندما نقول ان الذي في دواخلنا كالذي على ألسنتنا ، وهذا ما أكده علي الوردي ، نتمنى أن يكون ذلك واقعا كغيرنا من الشعوب ، قضينا العمر بالتمني ، والبلدان لا ترتقي بالأماني ان لم تستند الى حقائق .
نجامل السياسيين ورجال الدين ، ونستقبلهم بالأحضان ونجلسهم في مقدمة الصفوف ، ونبدي لهم عظيم الاحترام وكبير التقدير ، وفي دواخلنا نضمر لهم من الأماكن أسوأها ، ومن النعوت أبشعها ، ومن الانتقادات أقساها ، واللبيب منا يتساءل من جعلنا على هذه الشاكلة ، بعض ما قلت يجيب عن السؤال ، وربما لديكم غير ما قلت .
كثيرا ما نختبىء نحن الكتاب خلف بريق اللغة هربا من قول الحقيقة كاملة، وان تجرأنا على قولها في لحظة انفعال او تجلٍ ، فلا أحد يسمع لها او يتأمل بها ، وان سمعك الذين يتحكمون بحياتنا ، فكلامك بنظرهم هذيانا وثرثرة . وربما يكيلون سرا ما لا يخطر على البال من تهم ، ويسخفون أفكارك في العلن ، وكأنك تستهدفهم شخصيا ، بينما تريد لهم أن يضعوا الوطن والناس في الأحداق ، وفي ذلك مجدهم لكنهم لا يعقلون.
jwhj1963@yahoo.com