مرثية للقاضي محمد العريبي.. تبكي الرجال على الرجال
منير حداد
القاضي محمد عريبي مجيد الخليفة المحمداوي 1969 – 2021 قطعة زمن مستقيمة، تمتد على صفائح الأرض وتنتصب مثل أعمدة السماء.. كرماً علمنياه فتعلمت من نسج صداقة الكلية البريئة، والحاجات الجمالية التي جعلتني أفكر بصوت عالٍ أمامه هو.. حفيد مجيد الخليفة المحمداوي.. تبادلاً.. فمحمد عريبي.. الحفيد، لا يخجل... ولا نخجل كلانا من التذاكر بيننا في شؤون شديدة الخصوصية، مثل إخوة نسلتهم الثقة من ظهر الحق ورحم المودة!
إشتهر محمد سنة 2006 بعد محاكمته صدام حسين بقضية الأنفال، ومات بمضاعفات كورونا، وأبقاني الله حياً أستحضر ذكرياتنا معاً في أروقة كلية القانون والسنتر و... غلاسة السياسة والقصص اليومية لعيش كفاف نواجهه بالتكافل.. كل شريف للشريف نسيب، جمعتنا صفات معنوية مشتركة، فمحمد أغنى رجال الأرض إحتراماً لشخصه وكرم مَحْتَدِهِ المتجلي من أصل رفيع.. يجل إنسانية البشر ويعفو.. بل يكرم الخطاة رأفة بضعفهم الأخلاقي...
استذكار قومي
بهذه النزاهة والرفعة، إلتأم شمل صداقة متينة العرى، بيني ومحمد عريبي، الذي علمني الكرم ولو بنا غضاضة!
أصيل.. أؤكدها: أصيل برغم برود يقترب من الجفاء، فغر فجوة بيننا في السنوات الأخيرة، بعد أن كنا أصدقاء منذ الكلية وصرنا قضاة و... شتتنا النوى!
تعلمت منه كيف أتحول مثالاً يقتديه الناس في الكرم.. لذلك كلما ساعدت أحداً.. في السر أو العلن.. أتذكر محمد عريبي.. أفتقده في الملمات... «سيذكرني قومي إذا جد جدهم.. ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر» وبدر محمد لا يغيب «لسداد ثغر ويوم كريهة» حيث لا كره أشد مضاضة على نفسي من رحيل عريبي، صنو روحي ورفيق الحياة والمناصب التي زالت وبقينا رجالاً يصنعون قدرهم ولا يدعون قدراً يلعب بهم.. توازناً.. لا نزهف بالرخاء ولا نتقبل ذل هوان.. أربعون عاماً تخللتها حلوات كثيرة ومرات أكثر.. علقم وحنظل وحلاوة عيش وطراوة هناء.. على حد سواء، لم نخذل عزة نفسنا والإعتداد بكرامتنا... في معسكرات الطلاب مطلع الثمانينيات، مرض محمد بسبب وهن بنيته الجسدية ولأنه إبن شيوخ مدلل، فصرت أطعمه أكلي، ولم يفد.. فواشك الموت؛ ما جعلني أضرب باب غرفة آمر المعسكر، ونقلوه الى المستشفى.
كلانا لا نتقبل مساعدة من أحد.. إلا واحدنا من الآخر.. يمد يده في جيب صديقه من دون تردد، فالرجال تعرف معادنها وتبكي.. تبكي الرجال على الرجال.
عرضت عليه رشاوى لا يصمد أمام إغرائها المليارديرات، وتماسك بالحق ضد الباطل.. سيارة فارهة الحداثة ممتلئة بأموال طائلة، قدموها إليه، ونحن جالسان.. أنا وإياه، في مطعم والده «العزائم» رفض المساومة وليس في جيبينا سوى ما مجموعه خمسة وعشرين ألفاً، لكن لم يثنه العوز عن النزاهة.. عاش ومات محترماً قابل الله بذمة نزيهة.. إبن شيوخ بحق.
أقسم بالله، لو لا موته أوان جفوة بيننا، ما عشت بعده ثانية واحدة، وللحقت به؛ لشدة وثاق صداقتنا.. ميتاً معه. فهو من عائلة مسالمة.. لا يعنى بسياسة السلب.. المعارضة، ولا الإيجاب.. المتملقة للطاغية آنذاك، لكنه يحفظ أسراري التي... لو عرف عنه يعلمها؛ لأخذ بجريرتي إعداماً.
رحم الله القاضي محمد عريبي، وكل شهداء النزاهة! أشتاق إليك يا صديقي.. عزائي أنك في الجنة.