من الكتابة على الماء إلى النحت على جذع نخلة
محمد رضا مبارك
لعلي اول من أشار إلى الدكتور كاظم المقدادي بأن بعض مقالاته تشبه المقامة ولا سيما مقامات الحريري والفرق انه لم يجترح راو لما يكتبه مثل ابو زيد السروجي او الحارث بن همام كي يكتمل بناؤها والمعروف ان المقامة نقدية انتقادية ومن اشهر المقامات المقامة الصنعانية التي درسها سرديا الكاتب المغربي محمد الداهي مع بعض الروايات وخلاصتها ان واعظا دينيا كان يعظ الناس باجتناب المحرم لكنه في السر يفعل ذلك المحرم بكل أريحية في مفارقة بين الكلام والسلوك او بين الفعل ونقيضه فهو يفعل نقيض ما يأمر به والدكتور كاظم بكتابه هذا ينحو نحوا انتقاديا لكنه صادر من قلب موجع وان حاول ان يغلف ذلك بإسلوبه الممتع وسجعه المبجل كي يضفي شيئا من التشويق او كما يقال في نظريات النقد كي يدمج وعيه بوعي القارىء من دون ان يشعر هذا القارىء ان الكلمات أخذته بعيدا إصغاء وتمثلا محببا معظم ما كتبه المقدادي في هذا الكتاب يحتاج إلى وقفة او توقف لاستكناه هذه البساطة الجميلة التي تستعصي على الكثيرين فهي مختصة به طيعة بيديه وحين قرأت اول مقالة في الكتاب وهي تصفير الزمن تذكرت بيت المتنبي ولو برز الزمان الي شخصا لخضب شعر مفرقه حسامي
حيرة الزمن من المتنبي إلى جيل تولوز وكتابه الشهير عن الزمن لامس المقدادي في هذه المقالة السابقين وشكا الزمان وفعله المؤثر المدمر للشكل والعقل والمزاج ليقول وحده الزمان الذي لايتغير وكلنا متغيرون فإذا أضيف إلى ذلك زمن اجوف فارغ من المعنى كالذي نعيشه تصبح مشكلة الزمن اشكالية كبرى والفرق شاسع بين الاثنين لان الإشكالية ذات منحى فلسفي
وحين قرأت مقالته الرائعة امسحوا بغداد واستريحوا ذكرني ذلك بحديث عيسى بن هشام لطيب الذكر المويلحي فقد استيقظ المويلحي على لسان بطل احاديثه بعد موت دام لعقود فوجد المدينة غير المدينة تذكر أماكنها ومصادر البهجة معالمها التي اعتاد صارت شكلا آخر والمهم ان الناس غير الناس كانوا اكثر طيبة وعفوية وحفاظا على تاريخها وحاضرها يقول المقدادي عن بغداد. اليوم رغبت بجولة بغدادية مشيا على الأقدام لأرى ما لايراه الأمناء ولا يهتم به الوزراء لمدينة لم يعد لها ابواب الشرقي مخلوعا والمعظم مرفوعا هذه ساحة الميدان امامي صارت ملحقا لخردة وبسطيات وسوق هرج كانت نقطة انطلاق جميلة لشبكة نقل بباصات حمر من طابقين تتوزع بشرايينها على الرصافة والكرخ وكان البغداديون يصطفون ولا يتدافعون ينتظرون ولا يتأففون
ويقول ولا تسألني ايها العزيز عن صالات السينما ريكس وروكسي والشعب والزوراءوالخيام فقد تحولت إلى مخازن للأثاث وعلف الحيوان وحالها حال ساحة حافظالقاضي التي كانت مكانا لاحدث السيارات الأمريكية واليوم تتربع في وسطها وبكل اعتزازفخر الصناعة الوطنية الستوتة مع عربات الحمل الشعبية
السخرية اللاذعة طريقة المقدادي في تقديم مقالته او مقامته وان كانت نوعا من الكوميديا غير انها تتحدث بصراحة الصحفي الأمين عن واقع لابد من تغييره
هذا الكتاب بمقدمته الضافية التي كتبها المفكر عبد الحسين شعبان وثيقة ترقى بدلالتها المعاصرة إلى ان تكون وثيقة تاريخية حرص المقدادي فيها على الإفادة من ميزة التواصل الاجتماعي فسجل جل التعليقات التي كانت تصله على صفحته وبعضها فيه قيمة معرفية وهي التفاتة صحفية ذكية من المؤلف الذي عمل على تدوين هذه التعليقات فوجد الكثيرون انفسهم في هذا الكتاب وكأنه كتابهم
حين تكون الكتب عميقة لا تجامل حاكما ولا متنفذا وحين يكون كاتبها مفكرا حرا فإن الذاكرة تحفظها وتمعن في تحليل شكلها الكتابي ومعناها ولعل هذا الكتاب يحقق لصاحبه ما يرجوه من قراءة .
يأخذ العنوان دلالته من انسجامه مع المتن ، الشعراء كانوا اول من أشار الى نوع من الكتابة هي ا لكتابة على الماء ،يقول عبد الوهاب البياتي في مقطع شعري :.يأتي مع الفجر ولا يأتي / حبي الذي أغرق في الصمت / الحب أعمى وأنا ههنا / اكتب فوق الماء ما قلت /حبيبتي من قبل أن تولدي / أحببت عينيك فمن أنت ؟ عذرا لأبي علي الذي يرقد منسيا في مقبرة الغرباء بدمشق فقد وضعنا كلمة اكتب مكان كلمة ارسم وكلاهما خط وكتابة ، ومن زاوية أبعد كان جبران خليل جبران هو الاخر يكتب فوق الماء حين يقول : إنما الناس سطور كتبت لكن بماء ، توجد كتابتان إذن الأولى فوق الماء والثانية فوق جذع نخلة فإذا كانت الأولى واضحة فما دلالة الثانية ؟في علم الدلالة هناك نوع من السياق يسمى السياق العاطفي ، يحدد هذا السياق درجة القوة والضعف في الانفعال .
.ويقع عنوان المقدادي في هذا السياق ، وهو في مقامته عن بغداد يذكر النخل الذي حورب في بغداد وهتكت حرمته ، فقد ازيلت مئات البساتين من بغداد في صمت مريب من الحكومات هذه البساتين كانت تلطف المناخ وتضفي البهجة والحبور ، أصبحت بغداد قطعة من الكونكريت الأصفر ووربما الاغبر بلون التراب ، فعلى أي جذع يكتب وما زال نخيل بغداد وكل المدن يقتل عمدا وقصدا ؟ تبفى أعمدة النخل الخاوية مجردة من سعفها بل من زهوها كان يجب ان تصان هذه الخضرة وتسور بصفتها محميات ، الحديث في الممكن المعقول وكل شيء خارج العقل ...النخلة وجذعها أصبحت خارج الاهتمام لتحتل بغداد المركز الأول في التلوث عربيا والسادس عالميا ...كتب الشعراء فوق الماء وكتب كاظم المقدادي فوق جذع نخلة ، ابتكار من مخيلة نشطة ليكون العنوان علامة سيميائية بكل ما في العلامة من معان .