مصطفى البارزاني: مسيرة أمة وطريق للحياة الحرة الكريمة
كفاح محمود
يبدو أن الربيع فصلاً كوردستانياً بامتياز، حيث تحتضن أيّامه منذ مطلعها وحتى نهاياتها أكثر أيّام الكورد فرحاً وحزناً، جمالاً وقبحاً، ألماً ومسرة، وبين هذه وتلك تمنح الطبيعة الخلابة أجمل ما فيها لذلك الكوردي الذي يقطر حبّاً للحياة وعشقاً للعمل والجدية والإخلاص، تُخفف عنه آلام الأيام وأحزانها وتُثير في خلجاته عشق الحياة بالصمود والتحدي، ممزقاً كتل الظلام المدلهم من حوله، ليبتدء في يومه النوروزي الجديد إيقاعات الحرية والانعتاق.
في هذا الشهر المثير بجمال طبيعته وأحداث أيّامه، حيث تمرّ العديد من المناسبات التاريخية في حياة شعب كوردستان، ويختلط فيها الحزن والفرح بين تاريخ خالد يشيع الأمل والسرور وتاريخ حزين يتذكره الناس بألم، ففي منتصف هذا الشهر وقبل ما يزيد على قرن من الآن، ولد الزعيم التاريخي للكورد وكوردستان الملا مصطفى البارزاني عام 1903م، وفي الأول منه وقبل 42 عاماً، أي في عام 1979م، ارتحل بعد أن نقش على سلاسل جبال وطنه ملامح المستقبل القادم لشعب يرفض الاستكانة ويصرُّ على إثبات هويته الإنسانية المعطاء، ليكون بحق رمزاً تاريخياً كبيراً يمثّل نهضة شعبه ووطنه.
لم يكن الزعيم مصطفى البارزاني مجرد ثائر يقود شعبه للانعتاق، بل كان خلاصة لحقب من النصال منذ انتفاضة الشيخ عبد السلام بارزاني وحتى انتفاضة آذار 1991م، حيث أختزل تاريخاً ومارس سلوكاً، أصبح فيما بعد نهجاً ومدرسةً للتربية والأخلاق، وفلسفةً في التعامل والتعاطي مع مستجدات وثوابت الحياة، من خلال إدراكه منذ البداية لحقيقة شعبه ووطنه المشكل من التضاريس الحادة والمتناقضة بين تخوم حمرين وشنكال جنوباً وحدود آسيا الصغرى شمالاً، فاندفع بكل ثقل التاريخ وإرثه باتجاه الشرق علّه يجد ضالته بين أحضان مهاباد، فكانت خطوته الأولى باتجاه الشمس.
لقد أدرك البارزاني مجمل الصراعات الدولية والاقليمية قبل عودته إلى بغداد عاصمة (الجمهورية الخالدة) التي عاد إليها بعد تغير الشكل وبقاء المضمون، وكان يعرف جيداً أن إقامته في الجمهورية الأولى ليست طويلة وأنه ذاهب إلى حليفه الأبدي وحضن وليده الذي خرج به قبل اثنتي عشر عاماً، ويقيناً كان البارزاني في تأملاته يرى كل ثوار كوردستان في وجوه أولئك الذين يحتضنون الجبال باحثين عن طريق إلى شمس الحرية، وقد أدرك بحسه التاريخي وتحليلاته العميقة أن الخطوة الأولى ستكون حتماً من قلب كوردستان وليس من بغداد، التي ما أن وصلها حتى اكتشف إنها واحدة من نتاجات الحرب الباردة التي أفرزتها حروب العبيد والغنائم وكان (الوليد) ضحية من ضحاياها، ولم يمض طويلا في بغداد التي ما تغير فيها الا الهيكل الاداري فعاد الى عرينه الاول ليقود ثورة الخريف في 11 أيلول 1961 التي احدثت خرقا تاريخيا في جدار الظلم والطغيان حيث الاعتراف الاول بحق الكورد بالاستقلال الذاتي في اتفاقية اذار عام 1970م لتؤسس القاعدة الاولى لفيدرالية كوردستان اليوم.
البارزاني الذي كان قائدا ميدانياً ينتج الفلسفة ولا يؤلفها ويطلق عنان الثورة ولا ينظِّر لها، كان بحد ذاته منظومة من السلوك والتربية والتعامل الإنساني الذي يقترب في تفاصيله من زهد الزاهدين وصوفية الناسكين، عمل جندياً وقائداً في آنٍ واحد دونما أن يُثقلَ على حركة وقانون الحرب، ويتحسس مشاعر العدو وأفراده ويفترض دائماً أنهم ضحايا مجبرين ويوصي بجرحاهم وأسراهم حتى من كان منهم قاسياً في أدائه للواجب أثناء الحرب، وقد أقرّ الفصل بين الأنظمة والشعوب منذ البداية، وبشر الآخرين بأن مفتاح الحل هو الديمقراطية في تحقيق أهداف الشعب سواء ما كان منه في كوردستان أو في العراق ورفع شعار الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان، مؤكداً بشكل دائم بأن العرب والكورد ضحايا الدكتاتوريات وأنه لا خلاص إلا باحترام حقوق الآخرين والاعتراف بهم.
كان الرجل بسيطاً متواضعاً نقياً أبيض القلب واليد، أبعد نفسه عن الهالات والبروتوكولات الرئاسية وبيروقراطيتها ومظاهرها، ووضع حوله خيرة رجال الثورة وأكثرهم طهارة وإخلاصا في المال والإدارة، وبذلك اخترق أدق مشاعر وأحاسيس شعبه حتى حسبه الناس أباً وعماً وأخاً كبيراً. واليوم بعد أن أصبح رمزاً ونهجاً وعنواناً لنهضتنا وحكاية شعبنا يحق لنا أن نسأل:
هل ما زلنا ننتهج ذات النهج والسلوك، وهل يعرف الجيل الجديد أن الأسس الأولى ولبناتها في حياة اليوم إنما وضعها مصطفى البارزاني ورفاقه؟
فهل وفينا الرجل حقه!!؟