صين القلق الدائم والتدخل الناعم
فؤاد مطر
هذا القلق الصيني على حاله من وتيرة التدخل الأميركي في موضوع تايوان. وأحْدث هذا التدخل السعي الدؤوب من جانب الإدارة الأميركية لجعْل الرئيس التايواني المنتخَب حديثاً وضمْن الأصول الديمقراطية (لاي تشينج) رقماً في سعيها الدؤوب من أجْل عدم تمكين الصين من إستعادة دولة لم يتم إلى الآن إعلان إستقلالها ويتفادى الرئيس الجديد حسْم المطلب الإستقلالي كما الرئيسة السابقة (تساي انج وين) التي كانت سياستها أميركية الملامح والمواقف ومن أجْل ذلك تزايدات التحديات الصينية جواً بهدف ألا تعلن الدولة الصينية أصلاً شعباً وثقافة إستقلالها. وبحذاقة متقنة في تسجيله للموقف من موضوع الإستقلال قال الرئيس الجديد «ليس لدينا خطة لإعلان الإستقلال». في أي حال إن البال الصيني لن يهدأ ولن تتقلص التحشدات وتحليق الطائرات الحربية إلى أن يحدُث التفهم الأميركي من جانب الرئاسة الآتية بعد أسابيع (بايدن أو غيره) وهضْم الحالة الراهنة ﻟ تايوان من جانب صين شي جينغ بينغ التي تتطلع إلى حضور قاري أكثر إستقراراً، وتعبِّر عن هذا التطلع من خلال مواقف متأنية إزاء الصراعات الساخنة وأكثرها سخونة ما يجري من جانب إسرائيل نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني عموماً وضد شعب غزة بحقد مضاعف مستمتعاً بنيامينها الرئيس بإبادة غير مسبوقة في ظواهر إبادات بينها ما حدث في جنوب أفريقيا، الأمر الذي دفع بحكومتها إلى الشكوى الدولية التي يؤمل منها فرملة في الحد الأدنى لجنون التعامل المستمر من جانب إسرائيل نتنياهو منذ ثلاثة أشهر والواعد بأن هذه الجولات اليومية الإبادية ستتواصل حتى العام 1925. وهي ستتواصل ما دام المجتمع الدولي وبالذات الإدارة الأميركية والحكومات البريطانية والرئاسة الفرنسية والمستشارية الألمانية وعلى رغم إعتراضات وتحفظات لافتة من جانب رموز عسكرية وسياسية في الحكومات الأربع، سيبقى معتمداً موقف الممالىء المتعاطف مع القاتل ضد القتيل.
لعل الصين تقتحم الميدان الأممي بنسبة تفوق تحفظاتها الراهنة فلا يقتصر تعاملها على التدخل الناعم بعد دور ملحوظ قامت به العام الماضي (2023) لتقريب الرؤى بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.وعند الحديث عن التدخل الناعم تستوقفنا حالة حدثت قبل أيام من جانب الصين في تونس التي يتأهب رئيسها قيس بن سعيد لولاية رئاسية ثانية. وفي تقرير صحافي من زميلنا المنجي السعيداني («الشرق الأوسط. الثلاثاء 16 يناير/كانون الثاني 2024) إضاءة حول واقعة تتمثل في أن وزير خارجية الصين وانغ يي دشن يوم الإثنين 15 يناير وبحضور الرئيس التونسي «الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس» وكان الرئيس بن سعيد في غاية إنشراح الصدر وقسمات المحيا وهو يزيح الستارة عن اللوحة التذكارية حول إفتتاح الأكاديمية الفريدة من نوعها في العالم العربي.
دبلوماسية وحيدة
وإستناداً إلى المعلومات فإن هذه الأكاديمية الدبلوماسية هي الوحيدة من نوعها في دولة عربية وأن الصين قدمت يد المساعدة في بنائها منذ البدء بالإنشاء عام 2019 بتمويل بلغ 29 مليون دولار أميركي وأن تدشين مقر الأكاديمية تم بموازاة الذكرى الستين لبدء العلاقات الدبلوماسية بين الصين وتونس. من المحتمل أن تشكِّل هذه الخطوة من التدخل الناعم من جانب الصين في تونس دفعاً لمزيد من التعاون التجاري والإستثماري فلا تبقى فرنسا مستأثرة بالنسبة الأعلى من الإستثمارات. كما من المحتمل أن تبدأ الأكاديمية تخريج عناصر من الدبلوماسيين التوانسة والمغاربة والجزائريين والليبيين والموريتانين يفيدون في بلورة العلاقة مع الصين وتنشيط الأواصر وفرص التعاون التجاري. هذا التدخل الناعم من صين شي جينغ بينغ يذكِّرنا بتدخل ناعم من صين ماوتسي تونغ قبل 53 سنة في السودان حيث أنه بعد زيارة قام بها الرئيس (الراحل) جعفر نميري إلى الصين وإستقبله بحفاوة زعيمها ماوتسي تونغ، طلب نميري من الصين المساعدة في أمور يحتاجها السودان بما يعزز قدراته الدفاعية وتنمية قطاعاته الزراعية.
ولقد فوجئ بأن ماوتسي تونغ قال رداً على أن السودان على إستعداد لدفع أثمان ما يعزز قدراته الدفاعية أن الصين ستساعد في حدود المستطاع ودون مقابل لأنها ليست تاجرة سلاح، تلميحاً إلى أن الإتحاد السوفياتي يتعامل مع العرب (وبالذات مصر وسوريا والعراق) بأسلوب تاجر السلاح. وأما في موضوع المساعدة التكنولوجية فإن ماوتسي تونغ قال إن التكنولوجيا في الصين غير متقدمة بما يمكن المساعدة.
لكن بدل ذلك هنالك المهارات الصينية وهي متوفرة وكثيرة التنوع. وهذه كلها تندرج ضمن التدخل الناعم في بعض الدول التي أحدثها ما أوردناه في شأن «الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس».
ما جناه السودان من سياسة «التدخل الصيني الناعم» كان إنشاء مبنى يطل على النيل في الخرطوم أطلقت عليه صين ماوتسي تونغ وسودان جعفر نميري إسم «قاعة الصداقة». وكانت هذه بمثابة القصر الجمهوري الثاني غير الرسمي للرئاسة. وكثيراً ما شهدت هذه القاعة إجتماعات بالغة الأهمية، كما شهدت القاعة المصالحة الأكثر تعقيداً بين نظام نميري والزعيم السوداني الصادق المهدي (رحمة الله على الإثنين) بعد طول إضطرابات ومطاردات. وفي سياق التدخل الناعم ساعد الصينيون الذين بدأوا يظهرون على السودانيين في الأسواق والمتاجر وعلى ضفاف النيليْن الأزرق والأبيض ويلقون الترحيب العفوي من الناس، في زراعة الأرُز في بعض المناطق وفي عملية صيد الأسماك في البحيرات، وكذلك في إنشاء طريق بين الخرطوم وبورسودان وهي الطريق التي سلكها بسهولة تحت وطأة حرب الجنراليْن البرهان وحميدتي مئات سيارات الدبلوماسيين العرب والأجانب إضافة إلى سودانيين مقتدرين غادروا جزعين إلى بورسودان ونقلتْهم من مينائها بواخر إنقاذ سعودية. ثم ها هي بورسودان تأخذ عثرة بعد عثرة من حرب الجنراليْن شكل أن تكون _ إلى أن يقضي الله أمراً ما زال في عالم الغيب بإنتظار أن يصبح مفعولاً _ عاصمة الجنرال عبدالفتاح البرهان الذي جمعت عاصمته المثلثة (الخرطوم) للسودان ذي الشأن والمهابة نهاية سبتمبر/أيلول 1967 القادة الأسلاف العرب وإتخذوا وقفة نخوة لكم تحتاج غزة المدماة المدمرة من أخلافهم في الحكم إلى مثيلة لها.
ملامح التدخل الصيني الناعم في السودان لم تتوقف عند حد المساعدة في الزراعة وشق الطرق وأبحاث إستخراج النفط وإنما شملت بعض المفاصل المجتمعية حيث درب الصينيون بعض السودانيين على الطب الشعبي مثل الفوجاما ووخز الإبر الصينية وكاسات الهواء وخلاف ذلك. ولم تمض سنوات قليلة إلا وبات الطب الصيني رائجاً في السودان. وفي السياق المجتمعي نفسه كانت هنالك دورات صينية داخل الخرطوم لتدريب الأطفال والفتية على الأكروبات (الألعاب البهلوانية) وكانت هنالك بعثات مختارة من هؤلاء إلى الصين بدعوة من الجهات الرياضية المسؤولة لإعداد جيل من ممتهني هذه الرياضات على المستوى الدولي والأولمبي.
تلك بعض ملامح التدخل الصيني الناعم، ذك أن هنالك في معظم دول القارة الأفريقية حالات من التدخل الناعم وهي مستقرة نسبياً قياساً بتدخل الدول التي ترى العلاقة مع الشعوب من خلال القواعد العسكرية وبذلك تنتهي الأمور إلى صواعق على نحو ما حدث ﻟ فرنسا ماكرون من عساكر النيجر وشعبها. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
خلاصة القول إنه بالتدخل الناعم تستقر العلاقات بين أصحاب الشأن من الكبار ومن الذين في مرتبة ثانية، وليس في القواعد العسكرية والتدخل الفظ على نحو ما تفعله على سبيل المثال روسيا بوتين في أوكرانيا، وكل من الولايات المتحدة وإيران بالعراق الذي لا يهدأ لشعبه بال ولا لحكوماته إستقرار.
أعان الله الأمة وهدى بعض الذين في أيديهم مقاليد الأمور إلى الصراط المستقيم.