تيه في خرائط مجهولة لناظم جليل الموسوي.. صراع الحب والقسـوة
حميد الحريزي
(ان أعظم اهانة تتلقاها المرأة على يدرجل هي تعنيفها أمام أبنائها).ص8
تدور أحداث الرواية داخل عائلة ريفية هي عائلة (عمران) المكونة منه ومن زوجته وولده جابر وابنته سلمى ... الرواية تصنف رواية واقعية اجتماعية ناقدة . تسير احداثها بشكل تسلسلي له بداية وخاتمة ...حيث يعيش الطفلان جابر وسلمى في حالة رعب وخوف دائم بسبب عنف وعدوانية وقسوة الوالد عمران ضد زوجته ، وضربه المبرح لها بشكل مستمر دون أن يعرفا سبب هذه العدوانية للأب ضد امهما الحنونة المسالمة التي اعتادت الصبر وتحمل وحشية زوجها دون أن تفصح حتى لاطفالها عن السبب الخفي لهذا السلوك العدواني مما تركهما في تساؤو ل وحيرة دائمة ، تحول الى حالة من الكره والبغض لوالدهما ، والتعلق الدائم بوالدتهما ومواساتها على ماتمر به من ظلم ...
وفي أحد أيام ونتيجة ثورة (عمران) سحبها وضربها ضربا مبرحا ، فعضه الكلب (عنتيك) في محاولة لخلاص سيدته ، ولكن عمران عاجله بضربة فأس قضية عليه ، وضرب رأس زوجته بحجر ادت الى شج رأس الزوجة بحجر ادى الى مفارقتها الحياة لا لشيء الا لأنها رفضت محاولته بيع بقرتهم الوحيدة ، وهرب الأب المجرم القاتل ... ، وقد عقب الابناء المفزوعين مما حصل ( خبز أمي أختمر في بطن الكلب ولم يختمر ببطن أبي) ص11
تشيع القرية الزوجة المقتولة ويتكفل الرجل الجشع (حميد الزكيل ) بمصاريف دفنها مقابل أخذ البقرة الوحيدة التي تمتلكها عائلة (عمران)، حيث لاخيار امام جابر لدفن أمه سوى اعطاء بقرتهم للجشع حميد ، نتوقف هنا عند هذا الحدث المؤلم الذي يتناقض ويتنافى مع قيم أهل الريف العراقي الذين لايتوانون عن مساعدة من يحتاج من أهل قريتهم أو يصاب بمثل هذا المصاب أو ما يماثلوه مثل احتراق بيته أو أصابته بمرض خطير ، فيتنادون لنصرته وأنقاذه من محنته على الرغم من قلة ما في اليد ولكن هذا جاء الحكي في نص الرواية وهو أمر محتمل الحدوث ...يعيش جابر واخته وحيدين بلا ناصر ولا معين بعد هرب الوالد ومقتل الام فاضطر جابر الى بيع كل ماهو فائض عن الحاجة وبيع ((العتيق))، ومساعدة واهنة من قبل الخالة نزيهة التي تعمل في مجرشة أورثتها الوهن والسعال الدائم وتردي الصحة بسبب ما تتعرض له من غبار ومخلفات عملية الجرش في المجرشة، والتي غيبها جابر عن الدار بدعوى ارسالها للعيش في بيت اخيها في مدينة السماوة دون أن تعلم سلمى شيئا عن حقيقة الأمر ...
كانت العلاقة حميمية بين جابر واخته وقد حثها على مواصلة الدراسة وعدم التوقف عن مواصلة التعليم ... تعرضت العائلة لمداهمات استفزازية من قبل مفارز الشرطة ولأكثر من مرة بدعوى البحث عن الأب القاتل ومحاولة معرفة أخباره ... كذلك بعض المضايقات من قبل (حميد الوكيل ) وحاولته قطع الماء عن ارضهم في محاولة قذرة للاستيلاء على الأرض ، ولكنه يواجه بموقف صلب من قبل جابر تجبره على التراجع ... وهنا تتضح بعض السلوكيات لبعض الجشعين وقسوتهم ومحاولاتهم لتضخيم ثرواتهم على حساب الام ومعاناة الفقراء والمستضعفين من أبناء جلدتهم ...تكبر سلمى فتبدو صبية جميلة تخطف أبصار الناظرين ، فيتقدم لخطبها أحد الشباب من القرى المجاورة فتحضى بزواج موفق ناجح ورعاية من زوج محب ، اتاح لها فرصة تكملة دراستها والنجاح بتفوق وتقبل في الكلية لتتخرج بعنوان باحثة أجتماعية بعد صبر ومعاناة وتحدي ظروف صعبة ومسؤليات زوج وتربية طفلة ، ثم تحصل على تعيين في وظيفة باحثة اجتماعية في دار للمسنين ...
(جابر) يبقى وحيدا يعاني من الوحدة وصعوبة العيش اعتمادا على مورد نخلاته من التمور وما تجود به ارضه من حبوب تسد حاجته على مواصلة الحياة بالكاد ، وقد حاول الانتحار شنقا بعد أن تمكن اللصوص من سرقة بقرته الوحيدة التي أهدتها له أخته تعويضا لبقرته الى اخذها حميد الوكيل ، وهنا تتضح لنا مدى وحشية وقسوة بني الانسان ضد بعضهم من أجل الحصول على المال والثروة دون أية رحمة ، أنه صراع ضار من أجل البقاء في ريف يعاني ساكنيه من الفقر والتخلف والمرض فينهش بعضهم لحم البعض دون وازع من ضمير ...
من أجل ضمان حفاظ (جابر) على بيته وممتلاكاته توجه الى تربية الكلاب ، بعد حصل على بقرة جديدة هدية من حميد الوكيل جزاء له على انقاذ حياته من عضة حية والعناية به في المستشفى حيث يبدو (حميد الوكيل) صاحب الثراء والوجاهة وحيدا لاعائلة ولا قرابة له يمكن أن يقف الى جانبه لانقاذ حياته سوى الشاب الفقير واليتيم (جابر)!!!
يستفيد (جابر) من خبرة (غازي) في تربية الجراء الذي سرقها جابر من جحر امهاتها ودربها على أن تكون مفترسة ووحشية اسماها(جراح ، خارق، صاعقة) قائلا(هذه الجراء أعادت لي طعم الحياة فأنستني أيامي التي واجهت بها الخوف والحرمان )ص60 ، وزاوج بين كلبته وكلب بوليسي يمتلكه أحدهم ليحصل على سلالة كلبية قوية غاية في التوحش والقدرة على الافتراس، بادل أحدها بنعجة مع أحد رعاة الاغنام بوساطة من خبير الكلاب (غازي)، ثم تمكن من تربية أنثى ذئب وزاوجها مع كلب قوي لتنجب له بعد 65 يوما عدد من الجراء الهجينة لتنضم الى ثروته الكلبية المميزة ...
يسهب الرواي في الحديث حول عملية تربية الكلب وعادات الكلاب والذئاب وكيفية تربيتها والعناية بها عبر عدد من الصفحات من الرواية لانرى أي مبرر لهذه التفاصيل وكأنه يرد أن يملك القاريء خبرة تربية الكلاب والذئاب ، عبر سرد ليس له علاقة قوية بمجرى السرد الروائي وثيمتها الاصلية واستمرار سرديتها ، ا بالدلالة على انغراس طبيعة القسوة والتوحش في سلوكيات (جابر) وكانه ورث هذه الوحشية من والده ، وشعوره الحاد بوحشية كل مايحيطه ويريد افتراسه بعد سرقة بقرته ، فشكل فصيل من الحماية المتوحشة من الكلاب وفراخ الذئاب للدفاع عنه وعن ملكيته .اما سلمى فتنجح نجاحا باهرا في عملها في دراسة حال المسنين والعناية بهم ، وكانت تزور شقيقها بين فترة وأخرى ،تكلف (سلمى) بضرورة زيارة دار المسنين في الديوانية والسماوة ضمن ايفاد يمتد لعدت أيام للقيام بهذه المهمة ، فتزور دار المسنين في الديوانية وخلال تجوالها في اقسام وغرف الدار ، تثير فضولها غرفة معزولة في الدار فتقرر كشف سرها ومن يسكنها ، وعندها تصاب بصدمة كبيرة عندما تعرف أن من تسكن هذه الغرفة هي خالتها نزيهة التي وجدت مرمية قرب سياج الدار فيتم ضمها الى الدار ، حيث تبدو الان في وضع بائس مؤلم ،عندها تدرك مدى وحشية وقسوة شقيقها وكذب شقيقها بخصوص خالتهم الذي اخبرها انها تعيش معززة مكرمة في دار أخيها في السماوة ، تشعر سلمى بالالم وتعذيب الضمير لما ال اليه مصرة الانسانة الوحيدة التي كانت تعينهم وتعطف عليهم ، تقدم طلب الى الدار تعبر به عن رغبتها في القيام بكل مراسم دفن هذه النزيلة بعد موتها وتعطيهم رقم تلفونها وعنوانها ، وهو الامر الوحيد القادرة على فعله لرد الجميل لخالتها الحنون التي قسى معها الزمان وابن أختها (جابر)... الذي وبخته سلمى بعد حين اقسى توبيخ وقررت مقاطعته الى الابد نتيجة لفعلته القاسية هذه وكأنه ورثها من والده الذي مازال مجهول الاقامة والهارب من السلطات خشية العقوبة ...تكلف بعد حين سلمى بالنقل الى الشماعية حيث يقيم عدد من (المجانين)، فتشعربالخوف من القيام بهذه المهمة الصعبة في هذا المكان الخطير ، ولكنها تقرر تنفيذ الامر ، فتدخل الشماعية وتطلع على نماذج غريبة عجيبة من النساء والرجال في هذه الدار ، وعلى تقسيمهم الى مستويات مختلفة حسب خطورهم وحالتهم اعقلية والنفسية ، فتتعرف على امرأة اربعينة حالمة تحب الحياة وتحلم بزفافها يوميا الى فارس احلام متخيل فتكسب سلمى مودتها وصداقتها ، وكذلك تعرفت على رجل خمسيني يجيد الرسم بالالوان وان كانت داكنة تعبيرا عن السوداوية والحزن فتطلب منه ان يرسمها بالوان مشرقة فيستجيب لطلبها ، فقرتت أنتربط بين (خولة) الحالمة وهذا الفنان الرسم فتعرفهما على بعض وتتيح له رسم صوة خولة وتعلقه بها وتعلقها به فتقترح عليها الزواج والعيش مع بعض ، وتنظم لهما حفل زفاف بهيج بمشاركة كادر الدار ، فكانت مبادرة رائعة ابهرت الجميع لمدى جدية وحنكة سلمى في أداء مهمتها .ولكن الصدمة الكبرى التي تصاب بها سلمى هي عثورها على والدها في قاووش رق(4) في الشماعية ، فنادته بأسمه للاكد من حقيقته فيقترب منها ثم يسدد لها بصقة كبيرة تغرق جبهتها مما يصيبها بالذعر والدهشة حيث اختار والدها الهروب الى دار الشماعية بعد أن هرب للخلاص من جريمته في قتل زوجته وجرائمه في سرقة ابقار اهل القرية طوال حياته وهو السبب الرئيسي لكراهته وقسوته مع زوجته التي كانت تستنكر عليه فعل السرقة ...
تنكشف الاسرار أمام (سلمى) التي حاولت اسيعاب الصدمة ، وكتبت طلبا الى دار الشماعية بتعهدها بدفن (عمران) حين وفاته بعد وفاته تبرعا منها ، وقد اتصلت بها الدار بعد حين تخبرها بوفاة عمران الذي قامت بمراسيم دفنه الى جوار قبر والدتها ، وتواصلت مع شقيقها حيث اصطحبته في زيارة لقبري والديهما ، بعد أن تحسن حالها وامتلكت سيارة بعد أن تعلمت سياقتها بالتعاون مع احد كوادر الدار .
وهنا تتوضح مصائر عائلة سارق البقر (عمران) عبر أحداث دراماتيكية ، وصراع مرير بين سلوك القسوة والتوحش وسلوك الحب والانسانية .كان الروائيمتمكنا في الامساك بخيوط النسج الروائي واحام السيطرة على الحبكة السردية ، وأن تخللتها بعض اسئلة الاستفهام لما هو غير معتاد ومقبول من سلوكيات كما نوهنا عليها أنفا كان يفترض أن يتفكرها الروائي.
أتت لغة السرد باسلوب بسيط يفتقر في الكثير من جمله وعباراته الى الشعرية لتزدان الرواية بثوب الجمال الشعري وتتلون خيوطها بالوان تعبيرية زاهية تقربها من القاريء.كما تفتقر شخوص الرواية الى تصوصف وتعريف ملامحها وعلامـــــــاتها الفارقة لتتشكل صورتهـــا في مخــيلة المتلـــقي .
كما تفتقر الرواية الى البعد الفلسفي من خلال السرد او الحوار وكذلك الى الحوار الداخلي لشخصيتها لتكون الكاشف الحقيقي لدواخل هذه الشخصيات ودوافع سلوكياتها مما يزيد الرواية ثراءا وعمقا .الرواية تقدم للقاريء والمتلقي صورا من معاناة المرأة العراقية عموما والمرأة في الريف العراقي على وجه الخصوص مجسدة في حال الزوجة وفي مآل شقيقتها نزيهة ، في تبدو نتيجة قوة الارادة والتصميم وتوفر الظروف المناسبة على مدى قدرة المرأة على تحقيق النجاح والكفاءة كما هي حال (سلمى )،