بيوت بغدادية تراثية.. قصر الشابندر الدبلوماسي المتمّرد في الأعظمية
صلاح عبد الرزاق
الحرب البريطانية على العراق
في5٥ مايس1941قامت القوات البريطانية بقصف القطعات العراقية جواً وسببت أضراراً جسيمة فهربت إلى الصحراء. وهرب العقداء الأربعة بعد انكشاف سوء تدبيرهم. فكانت القوات العراقية مكشوفة بلا خنادق ولا نقليات ولا اتصالات ، فكانت عاجزة تماماً. وامتلأت المستشفيات بالجرحى وزاد هياج الناس ، وعلا صوت الاستغاثة من الإذاعة العراقية. واتصل رشيد عالي بالإيطاليين واليابانيين يطلب النجدة وإرسال طائرات لكن دون جدوى. قامت الطائرات البريطانية بقصف معسكر الرشيد ومحطة السكك وخزانات بنزين وغيرها في بغداد. كان الموقف مرتبكاً جداً ولا يعرف الوزراء كيف يتصرفون. فقد ذهب وزير المالية ناجي السويدي إلى السعودية لطلب معونة ابن سعود !! وذهب ناجي شوكت إلي أنقرة ليتفاهم مع الأتراك بلا جدوى. أما موسى الشابندر ومحمد علي محمود قررا الهرب بقطار متوجه إلى خانقين ليلاً. وطلبا المساعدة من قائممقام خانقين إبراهيم صالح شكر لدخول قصر شيرين في الجانب الإيراني. في الصباح حلقت طائرات بريطانية فوق خانقين فأغلقت الأسواق والمدارس. اتصل رشيد عالي بالقائممقام ثم تكلم مع الشابندر طالباً عودتهما إلى بغداد. ذهبت كل محاولتهما للهرب أدراج الرياح فعادا إلي بغداد شبه مخفورين. وكان رشيد عالي يدعي أن ألمانيا وإيطاليا ستقدم دعماً عاجلاً لحكومته. طلب الشابندر ومحمد علي محمود من رشيد عالي إعفاءهما من الوزارة ويعينهما وزيرين مفوضين في برلين وموسكو وفي إيران.
طائرات الفوهرر فوق بغداد
وصل السفير الألماني غروبا إلى بغداد وأخبر رشيد عالي أن الفوهرر هتلر قرر مساعدة العراق وسيرسل طائرات. وصل سرب من الطائرات الألمانية إلى الموصل بقيادة ابن الجنرال فيرنون فون بلومبرغ (1878- 1946) Werner von Blomberg وزير الدفاع الألماني وقائد القوة الجوية، وحلقت إحداها فوق سماء بغداد فتعرضت لإطلاق نار لكنها أطلقت طلقات خضر وبيض كالإشارات ، واستقبلها الناس والشرطة والجيش بطلقات من كل صوب ، فقتل قائد الطائرة ابن بلومبرغ بطلقة تائهة. وتم تشييع جنازته من معسكر الرشيد إلى المقبرة الألمانية في الباب الشرقي بمرافقة الدكتور غروبا ومرافقوه وأعضاء وزارة الخارجية العراقية وكبار الموظفين والقواد العسكريين. عزز الحادث سمعة الألمان في الشعب العراقي ، فكان الناس يستقبلهم بالهتاف ويعطونهم ما يريدون بلا ثمن. وصار بعض الناس يسمون أبناءهم بهتلر وغورينك.
ماذا يفعل أمين الحسيني في بغداد؟
في حديث عابر تناول الشابندر وجود أمين الحسيني (1895- 1974) مفتي القدس في بغداد لدعم رشيد عالي الكيلاني فقال: حضر السياسي الفلسطيني موسى العلمي (1897- 1984) وقال: إن المفتي طموح وله مقاصد بعيدة . وقد وصلت به الأنانية أنه بقصد الانتقام الشخصي من الانكليز ، وأنه مستعد لأن يضحي بالبلاد العربية كلها! نعم! وأن بينه وبين الايطاليين اتفاقات لا يصدق بها الانسان، فهو مستعد لتسليم سوريا ولبنان في سبيل التاج على فلسطين. أنا وجمال الحسيني تحادثنا معه أكثر من مرة ، ونصحناه وقلنا له: ليس من المروءة أن يورط العراق بمشاكل بحجة خدمة فلسطين، فالعراق آوانا وأحسن إلينا فلنتجنب الإساءة إليه. رفض رشيد عالي هذا الكلام وقال: إن موسى العلمي وجمال الحسيني يكرهان المفتي ويحسدان مقامه.
يعلق الشابندر: كان أمين الحسيني ذكياً بارعاً استفاد من الوضع ، وأخذ يطبق منهاجه. ولما حدثت حوادث العراق كان هو منبع الوحي ومصدر الأوامر ومركز النفوذ. فمنه كانت تصدر البشارات عن قدوم مئات الطائرات ، ومن بركته تتوسع وتقوى الآمال ، ومن يراعه نتجت تلك المسودة الحمراء، ورشيد عالي يتمسك به كما يتمسك الأعمى بشباك الولي الصالح. بعد ذلك اكتشفوا أن الحسيني جاسوس للانكليز.
هروب جماعي إلى إيران
في 20 مايس 1941عندما كان الشابندر بصدد مغادرة بغداد بسيارته إلى منصبه الجديد عبر إيران علم أن الفلوجة قد سقطت وانكسر الجيش العراقي على خط الفرات. ذهب الشابندر وناجي السويدي وعلي محمود إلى دار رشيد عالي في منطقة الصليخ. هناك علموا أن القوات البريطانية وصلت أبو غريب. عندما سألوا رشيد عالي عن خطته إذا ما دخلت القوات البريطانية بغداد ، فتبسم وقال: لا يوجد ما يستوجب القلق . الآن أخبرني حسام الدين مدير الشرطة بأن (200) مجاهداً من عشائر زوبع صاروا يهوسون متوجين إلى الفلوجة ، وبحول الله سيطردون الانكليز منها. من الواضع أن رشيد عالي بلا خطة ، ولا استعداد ، ولا طوارئ. توجه الشابندر بسيارته ومعه ناجي السويدي إلى الحدود الإيرانية في خانقين. وكان الشابندر قد أرسل زوجته وطفلاه إلى بيروت. وصلا إلى قصر شيرين ثم توجها إلى كرمنشاه فكان القنصل العراقي عبدالله بكر ونائبه عبد الكريم الكيلاني باستقبالهما ونزلنا في القنصلية. في اليوم التالي وصل الوزيران محمد علي محمد وشاكر الوادي وعائلتهما إلى كرمنشاه. توجه الأربعة إلى طهران ، وكانت المفوضية قد استلمت برقية من رشيد عالي بأن الوزراء في مهمة سرية. وهو إجراء اتخذه لمنع استقالتهم من حكومته. وأن المفوضية العراقية أخبرت الخارجية الإيرانية بمضمون تلك البرقية.
تواصل هروب كبار الشخصيات من بغداد إلى طهران فوصلها علي ممتاز الدفتري (1901- 1990) ورؤوف شلاش ورايح العطية الحميداوي (1890- 1970) وعبد العزيز المظفر (1897- ؟) وغيرهم. ووصلت الأمور إلى ذروتها عندما هرب رشيد عالي والعقداء الأربعة والمفتي أمين الحسيني إلى طهران. قرر رشيد عالي مغادرة طهران والسفر إلى استانبول ومعه عزمي ونجدت الشواف تاركاً وراءه الشريف شرف والمفتي وعلي محمود واعداً إياهم بتسهيل سفرهم إلى تركيا لكنه نكث بوعده.
تشكيل حكومة جميل المدفعي
بعد هروب رشيد عالي ووزرائه سيطر الانكليز والبلاط الملكي على مقاليد الأمور وتشكلت الحكومة برئاسة جميل المدفعي (1890- 1958) لمدة أربعة أشهر (من 4حزيران 1941 إلى10 تشرين الأول1941) ثم تولى نوري السعيد الحكومة للسنوات الثلاث القادمة من19 تشرين الأول 1941إلى 4 حزيران 1944 .
في أول أيلول 1941 أذاع راديو بغداد بيناناً تضمن اتهام الجماعة الهاربة ومن الوزراء بأنهم بموجب المادة (80) من قانون العقوبات البغدادي بأنهم متهمون يستوجب حضورهم أمام المجلس العرفي العسكري. وكان المتهمون هم رشيد عالي الكيلاني ، يونس السبعاوي ، علي محمود ، صلاح الدين الصباغ ، أمين زكي ، محمود سلمان ، كامل شبيب وفهمي سعيد ، ناجي شوكت ومحمد علي محمود وناجي السويدي ورؤوف البحراني ومحمد حسن سلمان وموسى الشابندر وعبد القادر الكيلاني. تم احتلال إيران من الروس شمالاً ومن بريطانيا جنوباً فصار الهرب مستحيلاً . ولم ينج أحد منهم سوى المفتي أمين الحسيني الذي وجد تسهيلات من الانكليز ، فتبين أنه كان خادماً للانكليز ، وبقي يتظاهر بصداقته للعراقيين ويلتقي بهم. قامت الحكومة الإيرانية بتسفير المتهمين المطلوبين إلي الأهواز ، عدا محمد علي محمود وأمين التميمي لأنهما من الفلسطينيين.
طهران تعتقل السياسيين العراقيين
قرر الشابندر ومعه أربعة من الوزراء تسليم أنفسهم والسفر إلى بغداد لكن الموافقة تأخرت كثيراً. في أحد الأيام طلب الأمن الإيراني من الشابندر ورفاقه ناجي السويدي ومحمد علي محمود ورؤوف البحراني وعبد القادر الكيلاني وأمين التميمي السفر إلى الأهواز وبرفقة شرطي أمن مع كل منهم. في 8 تشرين الأول 1941 وصلوا بالقطار إلى الأهواز مساءً. وجدوا في المحطة كابتن إنكليزي ومعه جنود هنود فاعتقلوا محمد علي محمود وأمين التميمي وأخذوهما إلى السجن. في الصباح قرروا مغادرة الأهواز لكن جاءهم رجل من القنصلية البريطانية في الأهواز يطلب مرافقتهم للقاء السكرتير البريطاني. في9 تشرين الثاني1941 تم اقتيادهم إلى سجن الأهواز حيث بقوا قرابة ثلاثة أشهر وكان مزدحماً. في 20 كانون الأول1941 تم نقل السجناء بصحبة ضابط بريطاني من السجن إلى باخرة نهرية فوضعوا فوق السطح وكان الجو بارداً. سارت الباخرة في نهر الكارون ثم عند الفجر وصلت إلي شط العرب ثم البصرة ثم توقفت بقرب باخرة بحرية ليصعدوا فيها بعنوة لأنهم علموا أن الانكليز لن يسلموهم إلى الحكومة العرقية بل يسفرونهم إلى الهند. في27 كانون الأول 1941 رست الباخرة في بومباي بالهند ليصادف عيد الأضحى. في 2 كانون الثاني 1942 انتقلوا إلى باخرة أخرى تضج بالركاب الهنود وعائلاتهم متوجهة إلى مومباسا Mombasa (ثاني أكبر مدينة في كينيا) حيث بلغوها في11 كانون الثاني ١1942. تم نقلهم من الباخرة إلى معتقل داخل إحدى الغابات ، محاط بأسلاك شائكة ووضعوهم أمام خيمتين خاليتين وانصرف الحرس. كانت المعاملة سيئة جداً في المعسكر ولولا وجود أسرى إيطاليين قدموا للعراقيين المساعدة لكانت حالتهم يُرثى لها.
من سجن إلى آخر
في 19كانون الثاني1942 تم نقل الشابندر وجماعته من المعتقل إلى باخرة هولندية نقلتهم إلي جنوب أفريقيا حيث وصلوا ميناء ديربان Durban من هناك تم نقلهم إلي معتقل خارج المدينة. تمت معاملتهم معاملة حسنة مثل الأسرى الايطاليين. في اليوم الثالث تم نقلهم بالقطار إلى جوهانسبرغ Johannesburg وروديسيا Rhodesia ثم سالسبوري Salisbury حيث وصلوها في 1 شباط ١1942، نقلوهم من محطة القطار إلى معتقل وسط غابة محاط بالأسلاك الكهربائية. كان المعتقلون العراقيون يضم 35 شخصاً هم:
الشريف شرف- ناجي السويدي- محمد علي محمود- رؤوف البحراني- موسى الشابندر- عبد القادر الكيلاني- جمال الحسيني (فلسطيني) - أمين التميمي (فلسطيني) - داود الحسيني (فلسطيني) - كامل شبيب- عبد الرزاق شبيب داود السعدي- عارف الجاعوني (فلسطيني) - رشيد فليح – حسين فخري- ناجي السامرائي- عبد الحق العزاوي- فاضل رشيد- عبد الجبار محمود- مدحت علي مظلوم- جودت سامي سليمان- لطفي بكر صدقي- محمد عباس- عبد الجبار حمزة- متعب حسن- خضير عجيل- سيف ناصر- محمد شعيب برناوي (فلسطيني) - علي محمود الشيخ علي- يونس السبعاوي- فهمي سعيد- أمين زكي سليمان- محمود سلمان- صديق شنشل- يونس (خادم السبعاوي). كما دخل المعتقل الدكتور السوري القومي أمين رويحة قادماً من فلسطين وصار زعيماً للعقداء الأربعة وبقية المعتقلين، وكمال حداد الفلسطيني ، وكان رويحة جاسوساً يعمل بين المفتي والحكومتين الإيطالية والألمانية. فكان يقود رشيد عالي ببرقيات مزيفة وأخبار كاذبة.
وفاة ناجي السويد في المنفى
في 17 آب 1942 توفي ناجي السويدي في المستشفى بسالسبوري بعد إصابته بنزيف في الدماغ، وجرت مراسم الغسل والتكفين والصلاة في جامع للمسلمين هناك. وتم تشييعه من قبل الهنود والزنوج إلى مقبرة المسلمين. وهكذا انتهى رئيس الوزراء ووزير المالية ووزير العدل والنائب السابق والسياسي العراقي. بعد سنوات وافقت الحكومة العراقية على نقل رفاته ليدفن في مقبرة الأسرة في مقبرة الشيخ معروف الكرخي ببغداد. بعد عشرة أشهر في أول كانون الأول 1942 انتقل الشابندر ومحمد علي ورؤوف البحراني إلى دار خارج المعتقل يبعد 20 كم عن ساليسبوري. في 1 تموز 1942 انتقلوا إلى دار أخرى بعد أن أرادت صاحبة الدار العودة لها. وكانت الدار الجديدة ذات حديقة كبيرة وغرف نوم وصالة ومطبخ وحمام وتلفون. وصاروا يستقبلون الضيوف من انكليز وغيرهم.
عودة السجناء إلى العراق
في أوائل عام 1944 وردت برقية من حكومة الهند البريطانية تطلب تسفير المعتقلين العراقيين إلي العراق. في 24 كانون الثاني 1944 تم إبلاغ الشابندر وزملائه بالسفر. جاءت سيارات ونقلتهم إلى محطة القطار باتجاه جوهانسبورغ لكن تمت أعادتهم إلى ساليسبوري بعد أن تعرضت الباخرة ، التي كانت ستنقلهم ، إلى طوربيد انطلق من غواصة ، ومات جميع ركاب الباخرة. في 25 شباط 1944 تم نقلهم مع بقية المعتقلين في المعسكر إلى ميناء ديربان حيث ركبوا باخرة ثم تحركت في 1 آذار 1944 باتجاه مومباسا في كينيا حيث وصلوها في 7 آذار 1944. من هناك ركبوا باخرة باتجاه ميناء عدن الذي بلغوه في 14 آذار 1944. بعد ذلك سارت الباخرة في البحر الأحمر أربعة أيام لتصل ميناء بورت توفيق بمصر. انتقلوا بالقطار إلى سجن العباسية بالقاهرة بصحبة ضابط هندي وجنود هنود ، فكانت مسيرة ذليلة حتى دخلوا إلى سجن يقوده ميجر إنكليزي. لم يكن هناك فراش ولا أغطية سوى أكياس من القش في سرداب رطب مرعب وبارد.
من سجن العباسية إلى سجن أبو غريب بعد أيام جاء ضابط يهودي ونقلهم بسيارات كالصناديق مع حراسة غليظة مع كيل الشتائم للمعتقلين. بعد ساعتين ساقوهم بعنف وضرب إلى معتقل آخر محاط بالأسلاك الشائكة.
كان سجناً للانكليز ، ووضعوا كل معتقل في غرفة لوحده لكن بلا نوافذ ولا خدمات ولا نظافة سوى القعادة والتنكة وطاسة ومكناسة، وكثرة البعوض التي تجعل الليل ملحمة من العذاب والمعاناة. في ٢٦ آذار ١٩٤٤ تم إبلاغهم بالاستعداد للسفر . ثم نقلوا إلي محطة القطار لكن القطار فاتهم ، فركبوا السيارات باتجاه محطة القنطرة ليركبوا قطاراً فلسطينياً. في ٢٩ آذار ١٩٤٤ تحرك القطار ووصل حيفا ليلا ، ثم ركبوا باصاً ليصلوا إلى سجن حيفا العسكري. بعد قضاء يومين في السجن ركبوا السيارات إلى الأردن. في مساء الأول من نيسان ١٩٤٤ وصلوا إلى الحدود العراقية الأردنية ثم ركبوا سيارة نيرن ، عبروا الرمادي والفلوجة ثم توقفوا في أبو غريب حيث ينتظرهم مدير الشرطة العام أحمد الراوي ، ومعه رئيس وجنود الحرس الملكي. قام الرئيس بعزل العسكريين عن المدنيين ونقلوهم في سيارات عسكرية وأخرى مدنية حسب الصنف. أما الشابندر ومعه الشريف شرف ومحمد علي محمود ورؤوف البحراني وعبد القادر الكيلاني فتم إيداعهم في التوقيف وهو بناية كانت شيدت لتكون اصطبلاً للخيل. فالمكان بلا كهرباء ولا ماء ولا مراحيض ولا حمام وتعلوه الأوساخ ولعل ذلك المعتقل كان بذرة سجن أبي غريب الشهير فيما بعد. بعد عدة أيام زار الشابندر أخوه إبراهيم ومعه زوجة موسى وداد وأولاده غيدة ومحمود فسر كثيراً بهم.
محاكمة وإعدام العقداء
نقل المتهمون يونس السبعاوي وعلي محمود وأمين زكي ومحمود سلمان وفهمي سعيد وصديق شنشل من البصرة إلى بغداد وسجنوا في هذا السجن أبي غريب وهم مكبلون ، ولم يسمح لعائلاتهم بزيارتهم إلا مرتين بالأسبوع. وقد زارهم الوصي وحقّر بعضهم وأنّبهم على ما فعلوا. أجريت لهم محاكمة سريعة وحكموا بالإعدام وتم تنفيذه في اليوم التالي بحق يونس السبعاوي ومحمود سلمان وفهمي سعيد حيث نصبت المشانق بجانب السجن. وحضر للتفرج على تنفيذ الاعدام نوري السعيد وعبد الإله. ويقال أن محمود سلمان تكلم ببضع كلمات لكن مدير السجون العام عبد الحميد الشالجي أهانه وأسكته.
استجابة لنصيحة بعضهم قام موسى الشابندر بكتابة رسالة طويلة إلى الوصي عبد الإله شرح له فيها تفاصيل الأحداث ثم قال: أنا لم أكن يوماً ما ضد البيت الهاشمي أو ضده وهذا هو الحق. وكتب لنوري السعيد وللأمير زيد طالباً إنقاذه من السجن لكن لم يحدث شيء.
محاكمة موسى الشابندر
في أواخر نيسان ١٩٤٤ واجهت المحكمة صعوبة في تشكيلها. فالمدعي العام حمدي صدر الدين (١٨٩٣- ١٩٧١) لم يجد تهماً توجه للشابندر ورفاقه ، فاستقال وتم تعيين القاضي عبد العزيز الخياط (١٨٩١- ١٩٧٠) مكانه. تم اتهام المفتي أمين الحسيني بالمادة (٨٠) من قانون العقوبات البغدادي. وتم توجيه إنذار له عبر الإذاعة بوجوب تسليم نفسه وإلا يحاكم غيابياً. كما تم اتهام موسى الشابندر وكامل شبيب والشريف شرف ومحمد علي محمود ورؤوف البحراني بالمادة (٨٠) أيضاً. وتنص المادة ٨٠ على أولاً: (يعاقب بالاعدام كل من نظّم أو ترأس عصبة مسلحة هاجمت فريقاً من سكان البلاد أو قاوم بالسلاح تنفيذ القانون بواسطة مأموري الحكومة ، أو شرع في استعمال قوة ظاهرة للقضاء على الحكومة أو تغييرها). ثانياً (وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والحبس للأشخاص الذين انضموا للعصبة دون أن يشتركوا في تنظيمها أو يكون لهم رياسة فيها).
يقول الشابندر: قد اعتبرت المحكمة مجلس الأمة مرغماً على الاجتماع والتصويت، وقد شهد بعضهم بذلك مثل صالح باش أعيان فقال: إنهم أكرهوا على الاجتماع ، وهدّدوا ولذا صوتوا وصفقوا خوفاً من البطش ولكنهم والله كذبوا ولعنوا. لأن النواب الذين لم يحضروا تلك الجلسة لم يتعرضوا بأذى ، لكن المحكمة قبلت بذلك التفسير لأن الانكليز لم يرغبوا في تجريم أعضاء المجلس المصوتين المصفقين ، بل فضّلوا أن تنحصر تهمة العصبة بحكومة رشيد عالي والقواد العسكريين والمفتي والشريف شرف. وأن التوسع في الموضوع يجعل الشعب العراقي أو الأكثرية الساحقة منه مشتركاً ومجرماً.
عند الفجر تم نقل المتهمين بسيارة نقل الجرحى للهلال الأحمر وبحماية مجموعة من الحرس الملكي إلي معسكر الوشاش (متنزه الزوراء حالياً). كان مبنى المحكمة محاطاً بالحراسات ، ونصب رشاشات أمام البناية. كانت المحكمة في بنگلة (سقيفة) من الچينكو (الصفيح). دخل المتهمون الستة على المجلس العسكري حيث جلس القضاة على طاولة يتوسطه رئيس المجلس الزعيم (العميد) مصطفى راغب كهية (١٨٩٥- ١٩٦٠) ، وعلى يمينه القاضي شهاب الدين الكيلاني ثم العقيد محمد علي سعيد، وعلى يساره القاضي خليل أمين ثم ضابط برتبة رئيس (نقيب). وكان المدعي العام عبد العزيز الخياط يجلس على طرف الطاولة الشمالي. وكان بعض الضباط والمحامين يجلسون في جانبي قفص الاتهام.
اتهم المدعي العام الشابندر بتهم مثل: أنه نازي المبدأ بسبب وجوده ببرلين ومعرفته باللغة الألمانية وصديق رشيد عالي الحميم ، واشترك في عصابته. كما أنه لم يستقل من الوزارة المرقعة التي تشكلت بصورة غير مشروعة والتي أدت إلى ذهاب الوصي عبد الإله إلى الديوانية. وبعد سقوط الوزارة كان مع القواد الثائرين ومع رشيد عالي الذي بقي خارج الحكم ويهيّج الرأي العام ضد طه الهاشمي ويروج الدعايات المضرة. واشترك موسى الشابندر بالجرائم مع رشيد عالي في شهر آذار ١٩٤١ وفاوض دولة معادية هي ألمانيا، ووافق على دخول سفيرها السابق الدكتور غروبا الذي كان مبعداً عن العراق، ووافق على دخول قوات أجنبية مسلحة معادية للعراق وهي القوات الألمانية والإيطالية. وأن الشابندر من جملة العاملين على نقض المعاهدة العراقية البريطانية وأحرج السفير البريطاني بتاريخ ٢٨ نيسان ١٩٤١ ، وساعد على العصيان المسلح الذي أنتج الحرب مع الحليفة بريطانيا في شهر آذار ١٩٤١ والذي سبب حصول أضرار عظيمة في الجيش العراقي وقتل النفوس والإضرار بالأموال والحط من سمعة العراق الخارجية.
ثم أنهى المدعي العام كلامه بالمطالة بتطبيق الفقرة الثانية من المادة (٨٠) بحق موسى الشابندر ومحمد على محمود ورؤوف البحراني والشريف شرف، وتنفيذ الفقرة الأولى من المادة (٨٠) وإعدام كامل شبيب.
وبنفس أرستقراطي متعجرف يصف الشابندر في مذكراته المدعي العام عبد العزيز الخياط بصفات قبيحة ذميمة ، وأنه دنيء النفس وحقير وخبيث ثم يصف نسبه بالقول: هذا عبد العزيز الأعرج ابن الاسطة حميد الخياط جارنا في السابق في محلة جديد حسن باشا. ثم يعيّره الشابندر الثري بفقره فيقول: كان الأب وأولاده الأربعة وأمهم وجدتهم يسكنون بيتاً صغيراً متواضعاً. وكنا دائما نرعاهم ونساعدهم ونرسل إليهم ما يؤكل ويُلبس عن الأعياد والمناسبات. أما جدتهم واسمها ربّوعة فكانت في محلتنا شبه خادمة تقوم بشراء ما تحتاجه سيدات البيوت ، وتربح ما تربح لقاء هذه الخدمة. ولما سافرت جدتي إلى مكة أخذتها معها لتخدمها في طريق الحج. وهكذا أصبحت ربّوعة (حجيّة ربّوعة). وكان له أخوان في المدرسة العسكرية استشهدا في الحرب العالمية الأولى. وأما عبد العزيز الأعرج وعبد المجيد الأعور فلم يهتم أحد بهما . وصار عبد العزيز قاضياً يلدغ كالعقرب.
وأما رئيس المجلس العسكري العميد مصطفى راغب كهية التركماني فيصفه الشابندر بتكبر قومي فيقول: بأنه طيب من أهل كركوك ، كان قائداً للمدفعية أثناء الحركات ، وقام بواجبه العسكري لكن الرجل غير عربي ولا متحسس بالوطنية القومية، وفوق ذلك كان ناقماً على العقداء الأربعة الذين كانوا لا يعتمدون عليه بسبب أصله التركي أو الكردي.
ويمضي الشابندر في وصف أعضاء المحكمة فيقول: فالقاضي الثاني خليل أمين بأنه بلا ضمير ولا وجدان ، وهو مرتشي. وأما العضو العسكري محمد علي سعيد فهو كردي ومتدين ومصر على براءتنا. والعضو العسكري الآخر عبد الله النعساني من أهل الموصل وهو مسلم متدين.
أوكل الشابندر محاميين اثنين عنه هما إبراهيم الواعظ الحلي (١٨٩٣- ١٩٥٨) وعبد العزيز سلمان طه السنوي الموصلي (١٩٠٠- ١٩٧٠) ، بعد أن رفض المحامون البارزون الدفاع عنه. أما الموقف الشعبي فقد تحول كلياً من التأييد والدعم للمقاومين إلي اللوم والتقريع للمتهمين.
في حزيران ١٩٤٤ استقالت حكومة نوري السعيد ، وقام حمدي الباجه جي بتشكيل الوزارة الجديدة فارتفعت نسبة التفاؤل عن الشابندر لأن علاقته طيبة بالباجه جي. ويروي الشابندر أن كامل شبيب المحكوم بالاعدام كتب رسالة إلى الوصي يشرح وضعه أثناء الحركة ومن بعدها في إيران وأفريقيا وأنه كذا وكذا. بعد أن قرأ الوصي الرسالة قال: كل هذا لا يخلصه من الشنق.
في ١ تموز ١٩٤٤ مثل الشابندر أمام المجلس العسكري لمحاكمته ، وحضر معه محامياه. بادر الشابندر بالدفاع عن نفسه ورد التهم الموجهة إليه ، وأنه ليس نازياً هازئاً من التهمة بقوله: إن وجودي في برلين ومعرفتي اللغة المانية ليس ديلاً أدان به. وذلك أنني أعرف الإنكليزية وكنت في إنكلترا ، وأعرف الإيطالية وكنت في إيطاليا ، وأعرف الفرنسية وكنت في فرنسا ، وأعرف التركية وكنت في تركيا ، وأعرف العربية إيضاً. ثم أخذ يرد بقية الاتهامات مثل مشاركته في حكومة رشيد عالي المرقعة. بعد ذلك بدأ رئيس المحكمة مصطفى راغب باستجواب الشابندر عن أمور تفصيلية كثيرة. واستدعت المحكمة الشهود ليدلوا بشهاداتهم التي أيدت موقف المتهمين وأنهم لا علاقة لهم بما حدث. بلغ عدد الشهود عشرين شاهدا منهم جميل المدفعي وتوفيق السويدي ونوري السعيد وعلي جودت الأيوبي وأرشد العمري وصادق البصام ومصطفى ماجد والسيد محمد الصدر وصالح باش أعيان وكدد كبير من الضباط والموظفين.
المحكمة تصدر قرارا بالسجن
استمرت الجلسات طوال شهر تموز ١٩٤٤ وحتى منتصف آب ، ففي ١٦ آب ١٩٤٤ تم إحضار المتهمين إلى المجلس العسكري للاستماع إلى قرار المحكمة حيث تم الحكم بالاعدام شنقاً على كامل شبيب ، والسجن لخمس سنوات على موسى الشابندر ومحمد علي محمود ، والحبس الشديد لثلاث سنوات على الشريف شرف ، والحبس الشديد لسنتين على رؤوف البحراني ، والحبس الشدي لثلاثة أشهر على عبد القادر الكيلاني ، وتضمين الجميع مبلغ مليون وستمائة ألف دينار عن الأضرار المادية التي سببتها الحركة. كما شمل القرار مصادرة الأموال والأملاك.
بعد النطق بالحكم تم اقتياد المتهمين نحو سجن أبو غريب حيث وجدوا عائلاتهم بانتظارهم. وجدت الشابندر زوجته وداد واختلى بها في غرفته وزعم أنه محكوم سنتين كي لا يثير في نفسها الجزع والخوف ، فتعانقا وهي تبكي وهو يضحك ليشجعها. وكان متألماً لأنه سيكون السبب في شقائها وشقاء أولاده ، مع أن يشعر بأنه ضحية ظلم وانتقام صريحين.
كان المحكومون ومنهم الشابندر يلومون الوصي عبد الإله قائلين: كيف يا ترى لشاب مثقف من أحفاد الحسين ومن سلالة النبي أن يحمل حقداً مثل هذا في صدره؟ لا سيما نحونا نحن الوزراء المعتدلين ولم يعمل أحد سوءاً موجهاً إليه، وكان كل ذنبنا أننا اشتركنا أو أُشركنا بوزارة رشيد عالي ، وأردنا أن نخدم بلادنا بدفع الشر عنها؟ ثم ألا يجب أن يكون الملك أو الوصي فوق كل هذه الحزازات وأعلى من هذه الانتقامات الرخيصة؟ وماذا تستفيد البلاد أو يستفيد العرش والوصي من أن نلبس نحن ثياب السجناء؟ أمن الضروري أن يشركوا فيه ضيق الصدر وخسة النفس؟
في ١٩ آب ١٩٤٤ سيق كامل شبيب ظهراً إلى غرفة الإعدام ، ومر على السجناء لتوديعهم فقال لهم باسماً وسيكارته في يده: (حاللوني واوهبوني). بعد إعدامه ساد السجن سكون غريب ، ولم يتعش أحد في السجن ذلك المساء.
أما الصحف العراقية التي صدرت بعد قرار المحكمة فكانت تبارك وتهنئ على إعدام وسجن الخونة. وهي نفس الصحف (اللواء ، الزمان ، العراق ) التي كانت تطبل وتزمر لحركة رشيد عالي الثورية الوطنية.
في ٦ أيلول ١٩٤٤ تم إحضار موسى الشابندر ومحمد علي محمود إلى المحكمة الكبرى (المركز الثقافي البغدادي حالياً في شارع المتنبي) لغرض تعيين قيّم لكل منها . وذلك لأنهما محكومين بالسجن أكثر من ثلاث سنوات ، وبموجب القانون يتحتم تعيين قيّم على أعمالهما ، فحضرا مرتديان ملابس السجن الذليلة. كان رئيس المحكمة إنكليزي فشاهدهما الانكليز والعرب بتلك الحالة. بعد خروجهم من المحكمة شاهدوا الناس متجمعين في الشارع قرب القشلة وهم يتفرجون على وزيرين سابقين بثياب السجن والذلة. عادت الشرطة بالسجينين إلى أبو غرب ليقبعا في الزنزانة.
ازمة صحية تؤدي إلى الافراج
خلال وجوده بالسجن تعرض الشابندر إلى المرض عدة مرات استوجب نقله إلى المستشفى للعلاج . وكان الأطباء العراقيين والانكليز مثل سندرسن باشا يقومون بفحصه ومتابعة حالته. في ١٤ كانون الثاني ١٩٤٥ ساءت حالته الصحية وأصيب بنزيف في الرئة. كتب الشابندر عريضاً إلى الحكومة يطلب الافراج عنه للاستشفاء ، وطالب وزارة الشؤون الاجتماعية بتشكيل لجنة طبية لفحصه. تشكلت اللجنة برئاسة الدكتور سندرسن باشا وعضوية الدكتور ستيس والدكتور هاشم الوتري الذين جاؤا في ١١ آذار ١٩٤٥ لفحص الشابندر . وبمساعدة من سندرسن جاء الخدم بميكروبات من مرضى آخرين ، ثم جاء تقري الدكتور (بتي) الذي أثبت وجود الميكروب. لكن الدكتور هاشم يحيى قاسم الوتري (١٨٩٣- ١٩٦١) تفلسف كعادته وقال إن وجود رئة سالمة لا يعني وجود خطر. بعد ذلك وبتأثير من سندرسن قررت وزارة الشؤون نقل الشابندر إلى شقلاوة للسكن هناك مع عائلته وتحت مراقبة الشرطة. لكن القرار تغير إلى نقله إلى بيته في بغداد.
في ٢٣ نيسان ١٩٤٥ غادر الشابندر مستشفى الكرخ إلى بيته بالأعظمية، وعاد إلى أهله وزوجته وأولاده الذين فرحوا به كثيراً وزاده لقاؤهم غبطة وسروراً. في صيف ١٩٤٥ بدأت الحكومة ببيع أملاكه حسب قرار المحكمة، وسعى الشابندر لشراء بعض أملاكهم ، فكتب لوزير المالية صالح جبر الذي وافق على الشراء بدون مزايدة. وذهبت لجنة من الخبراء إلى منزل الأعظمية لتقدير ثمنه وهل أن العائلة بحاجة إلى هكذا منزل واسع؟ وكانت المحكمة تريد بيع الدار لكن صالح جبر قرر بقاء الدار للشابندر وأسرته.
بعد خروجه من السجن ، للفترة من عام ١٩٤٥ إلي عام ١٩٤٧ ، انشغل الشابندر من كتابة مذكراته التي سماها (ذكريات بغدادية) والتي ضمنها عصارة ذكرياته ولقاءاته وزياراته مع أرشيف من الصور والوثائق التي تؤرخ للدبلوماسية العراقية في مرحلة حرجة من تاريخ العراق الحديث.
في ٧ آذار ١٩٤٨ ذهب الشابندر والتقى بالوصي عبد الإله الذي قال له: إن البلاد خسرت خدماتكم ، وأن ما وقع خسارة للبلاد كلها. قدم الشابندر شكره وأكد له بأنه ما زال مؤمناً ومخلصاً للبيت الهاشمي الكريم.
انتخابات مزورة عام ١٩٤٨
في نيسان سعى الشابندر للمشاركة في انتخابات مجلس الأمة وترشح عن الفلوجة. وكان يعتقد أن الانتخابات حرة ونزيهة لكن وجد أن حلفاؤه في الفلوجة قد خانوه ولم يرشحوا جماعته. وكان أخوه إبراهيم الشابندر قد أصبح رئيس الاستئناف المشرف على الانتخابات الذي أخبره بأن خصمه علي ممتاز يسيطر على الفلوجة ، ولا حرية ولا بطيخ.
في ١٦ مايس ١٩٤٨ أخبره إبراهيم الشابندر (١٨٩٠- ١٩٥٨) بأن وزير الداخلية مصطفى العمري دعاه وطلب إليه ترشيح نفسه عن العمارة، فقال له بأنه يفضل أن يكون موسى مرشحاً ، فقال: لم يحن الوقت لذلك، ومعنى ذلك أن الوصي لم يقتنع بعد بفائدة انتخاب موسى. بعد ذلك صرف النظر عن الانتخابات ، وفاز أخوه إبراهيم الشابندر ليصبح نائباً عن العمارة.
العودة للدبلوماسية
خلال فترة الفراغ الحكومي انضم موسى الشابندر إلى حزب رئيس الوزراء نوري السعيد (حزب الاستقلال) لخدمة مصالحه الشخصية. في ٢٧ تشرين ١٩٤٩ دعاه نوري السعيد إلى بيته وقال له بأن الحكومة ترغب بذهاب الشابندر إلى الشام لأن قضية الاتحاد الهاشمي دخلت في مأزق، وأن الوزير المفوض في الشام إبراهيم عاكف الآلوسي (١٨٩٧- ١٩٨٥) فشل في توحيد الكلمة ووقع بأخطاء سببت بلبل. وأن نوري باشا تحدث مع الوصي حول تكليف الشابندر فوافق.
غادر الشابندر بغداد ووصل إلى دمشق في ٤ كانون الأول ١٩٤٩ ، ولسوء الحظ بعد أسبوعين حدث إنقلاب في ١٩ كانون الأول ١٩٤٩ قام به العقيد أديب الشيشكلي (١٩٠٩- ١٩٦٤) الذي العقيد اعتقل سامي الحناوي (١٨٩٨- ١٩٥٠) ، والتجاء الضباط الموالين للاتحاد إلى المفوضية العراقية. إزاء ذلك قام الشابندر بتسفير السيد عبد المهدي المنتفجي (١٨٨٩- ١٩٧٢) وإبراهيم عاكف الآلوسي وعبد المطلب وآخرين إلى بغداد بطائرة خاصة في ٢٧ كانون الأول ١٩٤٩.
عاد الشابندر إلي بغداد يوم ٣١ كانون الأول ١٩٤٩ بعد فشله في مهمته بسبب الأحداث التي رافقت مهمته. ذهب لفوره إلى قصر الرحاب ليقص على الوصي تفاصيل ما حدث ، وأبلغه تحيات الرئيس هاشم الأتاسي.
مهام دبلوماسية جديدة
في ٢٣ آذار سافر ١٩٥٠ الشابندر مع توفيق السويدي بالطائرة لحضور اجتماعات مجلس الجامعة العربية في القاهرة، والتقى برئيس الوزراء المصري النحاس باشا (١٨٧٩- ١٩٦٥) الذي وصفه بأنه كان مولعاً بتصوير الوفد العراقي بأوضاع مختلفة. في ١٠ مايس ١٩٥٠ سافر الشابندر مع رئيس الوزراء توفيق السويدي إلى القاهرة لحضور اجتماع اللجنة السياسية في الجامعة العربية ومناقشة قضية الضفة الغربية. وأرادت مصر ومن معها طرد الأردن من الجامعة بسبب ذلك ، لكن توفيق السويدي استطاع إقناع عزام باشا أمين الجامعة العربية وإقناع المصريين بعدم طرده.
تم تعيين الشابندر وزيراً مفوضاً في دمشق حيث وصلها في ١١ حزيران ١٩٥٠ واستلم المفوضية من أمين المميز ، ووصفها بأنها كانت أقرب إلى اصطبل منه إلى بعثة دبلوماسية. كان الوضع في سوريا منقسماً تجاه الاتحاد الهاشمي. فرئيس الجمهورية هاشم الأتاسي (١٨٧٥- ١٩٦٠) مع الاتحاد ، ورئيس البرلمان رشدي الكيخيا (١٨٩٩- ١٩٨٧) يؤمن بالاتحاد ولا يقدم على تنفيذه، ورئيس الوزراء خالد العظم (١٩٠٣- ١٩٦٥) فرنسي النزعة لا يؤمن ولا يرغب بالاتحاد ، ووزير الخارجية ناظم القدسي (١٩٠٦- ١٩٩٨) يكتفي بالآراء الفلسفية والنظرية. أما العمل الحقيقي فكان بيد العقيد أديب الشيشكلي معاون رئيس أركان الجيش الذي يدعي أنه جندي لا يشتغل بالسياسة. والصحافة السورية منقسمة على نفسها ، تؤيد من يدفع لها وتهاجم من لا يسكتها بالمال.
أصبح موسى الشابندر وزيراً للخارجية في حكومة الدكتور فاضل الجمالي من ٨ آذار ١٠٥٤ لغاية ٢٩ نيسان ١٩٥٤. ثم في المنصب ذاته للفترة من ٣ آب ١٩٥٤ لغاية ٨ مايس ١٩٥٥ في حكومة نوري السعيد.
وفاته
توفي موسى محمود سعيد الشابندر في ٤ آب ١٩٧٩ ، ودفن في مقبرة العائلة بمسجد الشابندر وقد زرت قبره.
بيت الشابندر في الأعظمية
يقع قصر الشابندر على شاطئ دجلة من جهة بيت العائلة، وعلى زقاق من جهة الضيوف. يقع في محلة السفينة القديمة أو تسمى منطقة (الحارّة) (حاليا محلة ٣١٢). تبلغ مساحة البيت أكثر من (١٠٠٠) متر مربع . وبني بجواره مسجد الشابندر ومقبرة العائلة.
بني قصر الأعظمية في بداية القرن العشرين. ففي المسجد المجاور للقصر وجدتُ تاريخ الانشاء مكتوباً على واجهة المسجد (شيد عام ١٣٢٠ هـ) الموافق عام ١٩٠٢ ميلادي. ويقول موسى الشابندر في مذكراته (كانت العادة عندنا أن نقضي أشهر الربيع في كل سنة في قصرنا بالأعظمية. وكانت إذ ذاك صغيرة ومنعزلة عن بغداد وليس فيها إلا بعض القصور على الشط يسكنها أصحابها من الأسر الغنية في بغداد أيام الربيع، فكانت المتنزه الارستقراطي).
في عام ١٩١٥ كان أسرة الشابندر قد انتقلت إلى القصر ولكن عندما تطورت الأمور وخشيت الأسرة من البقاء في أطراف بغداد (الأعظمية) واحتمال تعرضها لهجمات العشائر في حال انسحبت القوات العثمانية ، عادت الأسرة إلى بغداد.
بعد أن اقتربت القوات البريطانية من بغداد قام الشابندر الأب بنقل عائلته من منزله القديم في وسط بغداد إلى قصره في الأعظمية لتفادي قذائف الطائرات الإنكليزية التي أخذت تستهدف مركز العاصمة وأبنيتها الحكومية في السراي والقشلة حيث مقر الحكومة العثمانية. ولم يقتصر سكان القصر على أسرة الشابندر بل انتقلت إليه عمته فهمية وأولادها.
في هذا القصر شهد ملاعب الشابندر وصباه وأخيه إبراهيم وابن عمته محمد وأصدقاءه.
في ٢٢ آذار ٢٠٢٣ زرت بيت الشابندر ومعي قائممقام الأعظمية الدكتور عصام العبيدي الذي قام مشكوراً بترتيب الزيارة.
البيت كان عبارة عن خربة طويلة تمتد من الشارع إلى النهر. وقسم كبير منه غير صالح للسكن وآيل للسقوط. تسكنه مجموعة من العائلات الفقيرة وكبار السن.
البيت مبني من الطابوق ، ويوجد ممر مسقف يصل مدخل الدار إلى الفناء الداخلي حيث توجد أشجار معمرة. ويوجد فوق الممر طابق علوي صغير. وسقف الممر من العقود المقوسة التي تحمل السقف. يضم البيت طابقان علوي وأرضي. والغرف العلوية تطل على نهر دجلة وعلى الفناء (الحوش) الداخلي. وتوجد شرفة واسعة في الطابق العلوي يحطها محجر حديدي مشغول بتصميم جميل. أما أرضية الدار فهي من الطابوق الفرشي الشبابيك والأبواب من الخشب وعليها كتائب من الحديد.
البيت يعاني من إهمال الجهات الثقافية المعنية بالتراث والآثار. كما يعاني من ورثته بحيث أصبح بهذه الحالة الرثة بينما موقعه وتاريخه يؤرخ لعائلة بغدادية عريقة أنجبت دبلوماسي ووزير خارجية ونائب في البرلمان الملكي. لا أتوقع أن تصله يد الإعمار بل سيبقى يعاني حتى يندثر ويتهاوى إلى الأرض ، ثم يتم إنشاء مشروع استثماري جديد مطعم أو مقهى وغيره نظراً لموقع الرائع.
مسجد الشابندر
يقع مسجد الشابندر بجوار البيت ولكنه أفضل حالاً لأن هناك من يشرف عليه ويتو