الفكاهة والمسامرة في الأدب العباسي
وليد عبد المجيد عبدالله
الفكاهة أو الكوميديا فن قديم، ويقال إنه نشأ في مصر القديمة، ويجد بعض الباحثين في النقوش الفرعونية القديمة ما يدل على أن المصريين استعملوا الفكاهة في النقد السياسي، وتشير الدكتورة سهير القلماوي في كتابها: الفكاهة في النقد السياسي والاجتماعي ، ص66 إلى أن هناك ( صورةً معروفة ترسمُ ذئباً يرعى قطيعاً أريد بها أن تنتقد والياً أو حاكماً أو قائداً في زمانها).
أما الأدب العربي في العصر العباسي فكان زاخراً بكنوز من الشخصيات الفكاهية وبتصوير الشخصيك الكاريكاتيرية التي تقترب من فن الفكاهة الدرامية الحية.
فالجاحظ المتوفى 255 هجرية بخاصةٍ في كتابهِ البخلاء استعمل عقله النفاذ وقدرته على الغوص في أعماق النفوس البشرية وعلمه الموسوعي، وروحه المرحة الفكهة التي لا تعرف العبوس، مما جعله يخلق القصص ليضحك حتى من نفسه كي يشيع في ثنايا أسلوبه البهجة والسرور.
فقد روى ياقوت الحموي في معجم الأدباء 16/ 75 عن أبي عثمان الجاحظ أنه قال: نسيتُ كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيتُ أهلي فقلتُ لهم: بمَ أكنى .؟ فقالوا: بأبي عثمان.
وأبو حيان التوحيدي المتوفى 310 هجرية لا يختلف عن الجاحظ في إيراد الأضاحيك والمفارقات إلى جانب التفكير والمنطق، ولا عجب فالتوحيدي تلميذ الجاحظ وأبرز المتأثرين به، فيقول في المجلد الأول من كتابهِ البصائر والذخائر 1/ 60: ( إياك أن تعاف سماع الأشياء المضروبة بالهزْل الجارية على السخف، فإنك لو أضربتَ عنها جملة لنقص فهمك، وتبلّدَ طبعك، ولا يفتق العقل شيء كتصفح أمور الدنيا ومعرفة خيرها وشرها وعلانيتها وسرها.. فاجعل الاسترسال بها ذريعة إلى جماحك، والانبساط فيها سلماً إلى جدّك، فإنك متى تذق نفسك فرح الهزْل ، كربها غمّ الجد) .
فأبو حيان يشعر بعد انغماسهِ في الجدّ أن القارىء بات محتاجاً إلى الترفيه والفكاهة والإيناس وإدخال المسرة إلى نفسه المكدودة بمضايقات الحياة ، وقد أجمع علماء النفس والأطباء على أن للضحك تأثيراً قوياً في حياة الفرد، لاعتقادهم أن البشاشة تكسو الوجه إشراقاً وجمالاً، وأن المرح يؤثر في طباع الإنسان وميوله، فيغدو أنيساً وديعاً لطيف المعشر، وعلى النقيض من ذلك دائم العبوس، فأخلاقه تتصف بالضيق والانقباض، ويغلب على نفسه الاكتئاب والنفور، إذ ليس كالضحك والفكاهة ما يبعث على إراحة الاعصاب.
وكانت وفود السمار تفد القصر العباسي، ويبرز كبار رجال الفكاهة ورواة الطرائف من أمثال الأصمعي وأبي دُلامة وأبي العيناء وغيرهم، وتمتلىء كتب التراث بنوادرهم، ويفتح الأمراء قصورهم للشعراء والسمّار والندامى من الظرفاء.
وقد طرق شعراء الفكاهة بشعرهم الضاحك جميع الأغراض والفنون يتواصفون الحياة ويصورون مجتمعاتهم، ومن الكلف بالفكاهة أن بعض الفكهين في العصر العباسي يتندرون بأنفسهم، وهذا مما يدل على أنهم كانوا تواقين إلى الفكاهة والضحك كما فعل أبو دُلامة، فيروي صاحب الأغاني 10/ 250 أن أبا دلامة بُشّر بصبية له فحملها على كتفه فبالتْ عليه فنبذها عن كتفه، ثم قال مداعباً متفكها:
بللتِ عليّ لا حُييت ثوبي
فبالَ عليكِ شيطانٌ رجيمُ
فما ولدتكِ مريمُ أمُّ عيسى
ولا رباكِ لقمانُ الحكيمُ
ومما ذكره أن العصر العباسي شهد تطوراً كبيراً في مظاهر الحياة حتى أن مجال الخلفاء والوزراء والأمراء تشجع الفكاهة والدعابة في الشعر والنثر، وكان لمجالسهم آداب تعرف بآداب المسامرة يتصدرها الندماء عادة، وكان بين هؤلاء الندماء مضحكون لا يزالون يوردون فكاهات مضحكة، ومن أشهرهم أبو دُلامة الشاعر مضحك السفاح والمنصور والمهدي، وابن أبي مريم مضحك الرشيد وثُمامة بن أشرس نديم المأمون.
وكثير من الندماء وصلوا إلى المراتب عند الملوك بملحهم ونوادرهم، فيقول الأصمعي: وصلتُ بالعلم ونُلتُ بالمُلح.
ومن ندماء ومضحكي الخلفاء أبو نُواس المتوفى 199 هجرية الذي كان نديماً مضحكاً في دار الخلافة للخليفة هارون الرشيد، وبطلاً لنكات مصطنعة، ومن صور أبي نُواس الطريفة المضحكة قوله في رجل بخيل يدعى الفضل:
رأيتُ الفضلَ مكتئباً
يُناغي الخبرَ والسمكا
فقطّبَ حين أبصرني
ونكّسَ رأسه وبكى
فلما أنْ حلفتُ له
بأني صائمٌ ضحكا
وهكذا لقد أصبح الشعراء والأدباء يلهون ويسرفون في الفكاهة ولا سيما في المحافل والمجالس، ونجد صوراً من الفكاهات الخفيفة لا يراد بها أكثر من الضحك والمرح ، وهذا بدوره أدى إلى الكثير من ضروب الرقة والظرافة في العصر العباس، حتى أصبح قول الشعر أيسر وأسهل في هذا العصر منه في العصور الأخرى.