الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دستغيب.. عالم جعل إصلاح القلب مقدّمة لإصلاح العالم

بواسطة azzaman

هكذا فهمتهم

دستغيب.. عالم جعل إصلاح القلب مقدّمة لإصلاح العالم

 

مجيد العقابي

 

هكذا فهمتُ السيد عبد الحسين دستغيب. كلما اقتربتُ من كتبه شعرتُ أنني أمام عالم لم يكن يكتب ليقدّم “موعظة” عابرة، بل ليصنع “مسارًا روحيًا” يريد أن يطهّر به الإنسان من الداخل، وكأنه كان يؤمن أن كل خراب اجتماعي يبدأ من خراب داخلي، وأنّ إصلاح المجتمع لا يسبقه إصلاح المؤسسات بل إصلاح النفوس، وأنّ معركة الأمة مع الفساد والاستبداد لا تنفصل عن معركتها مع الرياء والكبر والغفلة والأهواء. كان يرى الإنسان من الداخل قبل أن يراه من الخارج، ويتعامل مع النفس باعتبارها الساحة الأولى للانهيار أو النهوض.

قوّة السيد دستغيب أنه لم يجعل الأخلاق علمًا تجريديًا أو ترفًا وعظيًا، بل تجربة عملية، لذلك جاءت كتبه غنية وواضحة وقريبة من الناس، وفيها تشريح دقيق لأمراض الروح والسلوك. ومن أشهر مؤلفاته: «الذنوب الكبيرة» في مجلدين، و«القلب السليم»، و«الأخلاق الإسلامية»، و«العبودية سرّ الخلق»، و«المظالم»، و«صلاة الخاشعين»، و«قصص الشهيد»، و«القصص العجيبة»، و«حقائق من القرآن»، و«الإستعاذة»، و«الدعاء»، و«النبوة، الإمامة، المعاد»، و«النفس المطمئنة»، و«الثورة الحسينية»، و«المعاد». هذه الكتب تكشف عن مشروع متكامل في التربية الروحية، لا عن مجموعة رسائل متناثرة؛ مشروع يربط بين العقيدة والقرآن وبين النفس وسلوكها اليومي، ويحوّل الأخلاق من كلام إلى برنامج تربية.

نفوس الشباب

ولم تكن هذه الكتب مجرد مؤلفات في مكتبة؛ بل كانت تجربة وجدانية عاشتها أجيال كاملة، وأنا واحدٌ منهم. فقد كان السيد دستغيب – قبل أربعة عقود – من أكثر العلماء تأثيرًا في نفوس الشباب الباحثين عن معنى، والمتطلعين إلى تهذيب أنفسهم، والهاربين من صخب السياسة وضياع الأخلاق. وكنتُ شخصيًا أجد في كتبه «الزواج الإسلامي»، و«الذنوب الكبيرة»، و«القلب السليم» رفيقًا تربويًا حقيقيًا؛ أعود إليها، وأستمع لصوتٍ هادئ يذكّرني بأن طريق الالتزام لا يُقاس بالشعارات، بل بعمق التغيير داخل النفس. وكانت ظروفنا يومها تزيد من قيمة هذه الكتب؛ فهي نادرة في زمن البعث، والكتب الدينية فيها تضييق وملاحقة، ومع فقر الكثير من الشباب وعدم قدرتهم على الشراء كانت نسخي القليلة تُستعار وتُتداول سرًّا بين الأصدقاء حتى غطّاها الاهتراء من كثرة التداول، وكأن الغلاف نفسه يشهد على شدّة حاجتنا إلى هذا النوع من الغذاء الروحي في زمن المنع والخوف.

وفي هذه المؤلفات لا يقدّم دستغيب الأخلاق بوصفها قائمة نصائح، بل بوصفها طبًّا دقيقًا للنفس؛ يشخّص منشأ الرياء، ومصدر القسوة، وكيف يصبح الذنب عادة ثم طبيعة، وكيف تتحول الغفلة عن الآخرة إلى قسوة في الدنيا، وكيف يتربى القلب على الخوف من الله لا على الخوف من الناس. لغته في ذلك بسيطة، ولكنها ليست ساذجة؛ واضحة، ولكنها ليست سطحية؛ وهذا سرّ تأثيره في عامة الناس وخاصتهم معًا، لأن القارئ يشعر أن الكاتب يعرف كيف يفكّك مشكلته الداخلية، لا أنه يكرّر عليه محفوظات المجالس.

رجل محراب

وفي الجانب الاجتماعي لم يكن السيد دستغيب رجل محراب فقط، بل كان حاضرًا في حياة الناس، يهتمّ بالفقراء، يبني المشاريع الدينية والتربوية، ويتابع شؤون المجتمع من موقع العالم المربّي لا من موقع الموظّف الديني. هذا الحضور الميداني جعل خطابه الأخلاقي متجذرًا في الواقع، لا منفصلًا عنه؛ فهو لا يطالب الناس بالزهد من قصر، ولا بالصبر من برج عاجي، بل يكلّمهم من قلب المعاناة التي يعيشونها يوميًا.أما شهادته، فكانت امتدادًا طبيعيًا لهذا النهج؛ فقد استشهد في شيراز عام 1981 على يد عناصر من تنظيم «مجاهدي خلق»، بعد مسيرة من النصح العلني، والكلمة الأخلاقية الصريحة، والدعوة إلى مجتمع قائم على التقوى والعدل. استشهاده لم يكن مجرد حادثة أمنية، بل كان دلالة على أن الخطاب الأخلاقي الصادق يتحول – في لحظة معينة – إلى تهديد حقيقي لكل مشاريع التلاعب بالدين والإنسان.وحتى في النقد، حين نقترب من مشروعه بعين الباحث، نجد أن ملاحظاتنا تبقى في دائرة التوصيف لا الهدم. فمشروع الرجل كان أخلاقيًا تربويًا بالدرجة الأولى، لا فلسفيًا تنظيريًا، ولذلك لم يدخل في بناء مدرسة فلسفية للأخلاق أو نسق نظري شامل لمفاهيم النفس والعقل والوجود، بل آثر أن يكتب بلغة الناس ومشكلاتهم المباشرة. كما أن اعتماده الواسع على الروايات كان بهدف التأثير الروحي والتربوي، لا بهدف تأسيس أحكام فقهية أو دراسات حديثية نقدية، ولهذا لا تُقاس كتبه بمعايير التحقيق الرجالي بقدر ما تُقرأ بروح التربية والوعظ المسؤول. وأما مثاليته الأخلاقية العالية فهي جزء من وظيفة المربّي الذي يرفع سقف الطموح الروحي، لا جزء من مشروع سياسي يريد أن يفاوض على الحد الأدنى.

لهذا أرى أن القيمة الحقيقية للسيد عبد الحسين دستغيب أنه أعاد ترتيب الأولويات في العقل المتدين: أعاد القلب إلى مركز المعادلة، وجعل سؤال “كيف أكون إنسانًا أمام الله؟” سابقًا على سؤال “ماذا أكسب من الناس؟”، وربط بين القرآن وبين الحياة اليومية للمؤمن، وجعل الحديث عن الذنب والتوبة والرجاء والخشوع جزءًا من الوعي، لا هامشًا في آخر الصفحات. إننا أمام عالم لم يرد أن يربّي جيلاً كثير المعلومات وقليل المراقبة، بل أراد أن يربّي جيلًا يعرف نفسه، ويخاف من الله، ويرى الدنيا ممرًّا لا مقرًّا.

هكذا فهمته: سيدًا حمل همّ إصلاح القلب قبل إصلاح النظام، ورأى أن كل دولة عادلة تحتاج إلى إنسان عادل من الداخل أولًا، وأنّ طريق النهضة لا يمرّ فوق جثث القلوب الميتة.

ترك لنا كتبًا تخاطب العين الباكية والقلب القاسي والعقل الحائر في آنٍ واحد، وظلّ بعد استشهاده مثالًا لنمط من العلماء نحن في أمسّ الحاجة إليه: عالمٌ يربّي، لا يكتفي بالتدريس؛ ويزكّي، لا يكتفي بالشرح؛ ويشهد لله بالحق، ولو كان في ذلك نهايته الدنيوية.

 

 


مشاهدات 58
أضيف 2025/12/26 - 10:39 PM
آخر تحديث 2025/12/27 - 12:26 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 26 الشهر 19684 الكلي 13003589
الوقت الآن
السبت 2025/12/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير