الفن والفكر نبضٌ وشراكه واحدة

نوري جاسم

في زمنٍ تتسارعُ فيه الإيقاعات حتى يكاد الإنسان يفقد صوته الداخلي، يعود السؤال القديم/الجديد ليطلّ برأسه: كيف يمكن للفكر أن يبقى حيّاً دون أن يتكئ على الفن، وكيف للفن أن يستمر نابضاً إن تخلّى عن جذوة الفكر؟ ليس الفكرُ مجرّد مفاهيم تُصفّ على الورق، ولا الفن لوحة تُعلّق على جدار؛ كلاهما، في جوهرهما، رحلة بحث عن معنى الوجود، وعن ذلك اللمع الخفيف الذي يجعلنا نرى العالم بنورٍ أعمق من تفاصيله اليومية.

فحين نفكّر، فإننا نحاول ترتيب الفوضى التي تعصف بنا؛ وحين نبدع، فإننا نمنح تلك الفوضى شكلاً يمكن للروح أن تسكنه. لذلك ظلّ الفن عبر العصور العقلَ الآخر للإنسان، العقل الذي لا يتحدث بمنطق الأرقام بل بمنطق اللمسة والظلّ والنغمة والصمت. وما لم تتلاقَ هاتان القوتان، سنبقى إمّا أسرى عقل بارد، أو أسرى جمالٍ بلا بوصلة. والفكر يمنح الفن أجنحة تُحلّقه خارج حدود اللحظة، والفن يمنح الفكر جسداً يتحرّك بين الناس دون أن يفقد دفئه. ولهذا فإن كل إبداع حقيقي هو في النهاية لقاءٌ بين حكمةٍ وجرأة، بين وعيٍ وشغف، بين سؤالٍ عميق وصوتٍ قادر على حمل السؤال إلى الآخرين دون أن يطفئ ناره. وإنّ أزمة إنسان اليوم ليست في غياب الأدوات، بل في فقدان تلك المصالحة القديمة بين ما نفكر به وما نشعر به. وحين تعود هذه المصالحة، سيعود الإنسان أكثر قدرة على قراءة زمنه، وأكثر استعداداً لصناعة مستقبلٍ لا يعادي الجمال ولا يفرّ من التفكير، بل يراهما جناحين لطائر واحد… يطير بنا نحو معنى لا ينضب.