الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
خلوة مع النفس

بواسطة azzaman

خلوة مع النفس

عبد الحسين شعبان

 

دائمًا ما ألجأ إلى مراجعة نفسي في خلوة من التأمل والاستعادة والتفكير والنقد، وصادف في الأسابيع المنصرمة مرور ثلاث مناسبات دولية مهمة؛ أولها – اليوم العالمي للسلام في 21 أيلول / سبتمبر من كلّ عام؛ وثانيها- اليوم العالمي للّاعنف في 2 تشرين الأول / أكتوبر (يوم ميلاد المهاتما غاندي)؛ وثالثها – اليوم العالمي للتسامح في 16 تشرين الثاني / نوفمبر.

وهذه المناسبات الثلاث حضرت معي في خلوتي التي ساد فيها منولوج داخلي بين العنف واللّاعنف، وتساءلت مع نفسي ماذا يريد دعاة العنف ونقيضه اللّاعنف؟ وجدت أن دعاة اللّاعنف قلّة ضئيلة، في حين أن الغلبة هي إلى دعاة العنف، وتذكّرت القول الأثير عن الأقليّة الصائبة والأكثرية الخاطئة « كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ» (سورة البقرة، آية 249)، علمًا بأن العنف لا يؤدي إلى تدمير الآخر فحسب، بل يقوم بالتدمير الذاتي المادي والمجتمعي والإنساني، إضافة إلى المعنوي، وقوّة العنف تأكل نفسها، خصوصًا إنْ لم تجد من تأكله، فإذا لم يجد العنف ما يواجهه سيواجه نفسه.

ولكن أليس للعنف من نهاية؟ الجواب حسب دعاة اللّاعنف: أن العنف مهما استمرّ فلا بدّ له من أن يتوقّف يومًا وأن يحلّ السلام محلّه. وإذا كان العنف يقوم على التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف، فإن اللّاعنف يعتمد الحوار والتسامح وقبول الآخر، وهذه بدورها تستند إلى العقل، وإذا ما اتّحد العقل مع العلم ستكون المحصّلة لخير الإنسان وسلامه وعدله.

سباق اساسي

لكن دعاة المذهب العنفي يقولون إن سلمية وقوّة روحانية قائد لا عنفي مثل الدلاي لاما التبتي الصيني لم تردع الشيوعية المادية، ولم تمكّنه من تحقيق أهداف شعبه في الحريّة، حتى وهو حائز على جائزة نوبل.

وهكذا يبرّرون دعوتهم لاستخدام العنف، والأكثر من ذلك، يذهبون إلى القول إن القوّة تكمن في العلم والتكنولوجيا، والسباق الأساسي هو فيهما. أمّا أصحاب مبدأ اللّاعنف فيقولون: اللّاعنف هو طاقة نورانية تقوم على ارتقاء الإنسان بأبعاده المادية والعقلية والعاطفية والروحية، والإنسان لم يُخلق إلّا لهذه الغايات

الجدير بالذكر الطبيعة البشرية تحمل الخير والشر، والتربية هي مسؤولة أساسًا عن غلبة هذه النزعة على تلك، فالبيت والمدرسة والمجتمع والإعلام والمؤسسة الدينية... إلخ، وراء انتشار نزعات العنف، خصوصًا في ظلّ التفاوت الطبقي والاجتماعي واستشراء الفقر والأمية والتخلّف وانعدام العدالة وشح فرص المساواة، وما هو مطلوب هو تنمية نزعات الخير، حتى وإن كان ثمة استحالة للقضاء كليًا على النزعات العنفية الشريرة.

وثمة سؤال يُطرح: هل يمكن القضاء على العنف؟ إذا كان الأمر مستحيلًا فلا بدّ من تقنينه وجعله منضبطًا في إطار القانون مع رفع مستوى الوعي وتحسين مناهج التربية والتعليم ورفدها بالقيم الأخلاقية والإنسانية التي تحترم الحق في الحياة والتعدديّة والتنوّع والحق في الاختلاف.

اللّاعنف يمنح الإنسان السوي نفسيًا وعقليًا طاقة على الإيمان بقدرته على اختيار طريق السلام والبناء، وهذه الطاقة تمتلك قوّة كبيرة لا يمكن مقاومتها بالوسائل الاعتيادية، فهي تولّد الحركة، والحركة قوّة، وهذه تتغذّى عبر الروح والإرادة لتشغيلها واستمراريتها ودوامها. لا بدّ إذًا من التوازن بين الطاقة والقوّة، وأي طاقة تحتاج إلى طاقة موازية تناسبها لكي تصبح فعّالة، بمعنى أن كلّ طاقة تحتاج إلى قوّة مناسبة تستطيع احتوائها واستثمارها لتوليد الخير والمنفعة.

والعلم دون أخلاق يهدّد بفناء البشرية، خصوصًا إذا ما استخدمت القوى العنفية الذكاء الاصطناعي بطريقة شيطانية، وعلى العكس من ذلك، فاستخدامات الذكاء الاصطناعي مع الوازع الأخلاقي والإنساني بإمكانها نزع فتيل الحروب وإزالة التناقض بين إنتاج الثروة وتوزيعها، وفي الاكتشافات الطبية والتنبؤات المناخية والتغيّرات البيئية وصدق القرآن الكريم حين قال «كلّا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغى» (سورة العلق، أية 6 و7).

وهل يكفي الاعتماد على الجانب الخيّر من الإنسان في إنهاء ظاهرة العنف وصولًا إلى مجتمع مثالي؟ وثمة سؤال متفرّع كيف للّاعنف من مقاومة العنف؟

إن دعوات اللّاعنف هي ردّ فعل ضدّ العنف المستشري والمنفلت من عقاله، وهي محاولة للسير عكس التيّار ومواجهة الموجة السائدة، وسعي لتحويل القاعدة (العنف) إلى استثناء (اللّاعنف) والاستثناء إلى قاعدة.

لقد جعلتني خلوتي في حيرة من أمري، خصوصًا حين تابعت أوضاعنا العربية، ففي غزّة استخدمت أبشع درجات العنف والقسوة والتدمير الصهيوني، ولبنان يتلقّى الضربات والقصف اليومي، على الرغم من إعلان وقف إطلاق النار، والقتال المجنون ما يزال مستمرًا في السودان، والصومال لم تسلم الإقطاعيات التي نشأت في أعقاب الدولة من التقاتل، وفي ليبيا ما يزال الصراع على أشدّه دون أي معنى، واليمن تعاني من التقسيم والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، وسوريا ما يزال مصيرها غامضًا ومجهولًا في ظلّ التفتّت والوجود العسكري الأجنبي، الإقليمي والدولي، كلّ ذلك بسبب استمرار ظاهرة العنف، فأين نحن من تحويل هذه الظاهرة إلى نقيضها؟

ربما يحتاج كلّ منّا إلى خلوة مع نفسه، فعسى ألّا ندع اليأس يتسلّل إلى القلوب والعقول، على الرغم من العتمة وانسداد الآفاق، والخلوة وإن كانت عزلة فهي اقتراب من النفس وإصغاء إلى العقل وعودة إلى الروح وتأسيس جديد لعلاقة الإنسان مع نفسه وكيانه ولغته ومحيطه، خصوصًا حين نترك القلب يبوح دون حواجز أو حدود

 أكاديمي ومفكّر

 


مشاهدات 20
الكاتب عبد الحسين شعبان
أضيف 2025/12/08 - 3:36 PM
آخر تحديث 2025/12/09 - 1:10 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 55 الشهر 6150 الكلي 12790055
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير