الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قصيدة النثر.. ثورة الجمال وانعتاق المعنى


قصيدة النثر.. ثورة الجمال وانعتاق المعنى

محمد علي محيي الدين

 

لقد كانت قصيدة النثر – في منجزها الإبداعي الأصيل – شرارة التمرد الهادئ الذي هزّ بنية الشعر العربي، إذ فتحت أفقًا جديدًا لمقاربة الشعر بعيدًا عن القوالب الموروثة التي طالما كبّلته. إنها ليست خروجًا على التراث بمقدار ما هي تجاوزٌ واعٍ له، سعيًا إلى تحرير اللغة من صرامة الوزن وإطلاق الخيال من أسر القافية، لتصبح القصيدة كائنًا حُرًّا يتنفس من أعماق التجربة الإنسانية، لا من معايير النظم القديمة.

لم يكن هذا التحول قطيعةً مع الماضي، بل استجابة طبيعية لحركة الحياة وتجددها، فالشعر كالماء، لا يرضى بالسكون، ويتخذ شكله تبعًا لوعائه، ولأن العصر تبدّل، كان لا بد للقصيدة أن تتبدّل معه، محتفظةً بروحها القديمة، لكن في ثوبٍ جديدٍ أكثر انفتاحًا على العالم والإنسان.

لقد عرف تاريخ الأدب العربي صورًا عديدة من الخروج على القاعدة الشعرية المألوفة، بدءًا من تحولات الشعر الأموي والعباسي حين تمرد الشعراء على روح الصحراء الجامدة، فأنعشوا القصيدة بالصور المائية والظلال، وأدخلوها في أقاليم الحضارة والمدنية. ثم جاءت الموشحات الأندلسية لتعلن ولادة موسيقى جديدة في جسد الشعر، تناغمت فيها اللغة مع الألحان، والمعنى مع الإيقاع، فكان التجديد آنذاك صنو الحياة وضرورة من ضرورات الجمال.

ومع تطور الزمن وتبدل الثقافات، أخذ الشعر الحديث يخط طريقه خارج القيود المألوفة، فانبثق منه الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة ليكسر صلابة القافية الواحدة، ويفتح نوافذ جديدة للتعبير، ثم جاءت قصيدة النثر لتكمل رحلة الانعتاق الكبرى، فتزيح الشكل تمامًا وتترك الكلمة وحدها في مواجهة المعنى، دون سندٍ من وزن أو قافية، كأنها تسير على حبل المعنى وحده في فضاء اللغة الرحب.

ولأنّ التجديد يصطدم دائمًا بما هو راسخ، فقد واجهت قصيدة النثر منذ بداياتها رفضًا شرسًا من أنصار المدرسة التقليدية، الذين رأوا فيها خيانة للموروث وخروجًا على أصول الشعر العربي. لكنّ الريح لا تُحبس في قارورة، ولا يُمكن للحراس أن يقفوا في وجه ما يولده العصر من حاجاتٍ جديدة للتعبير. وسرعان ما أخذت القصيدة الجديدة مكانها في المشهد الأدبي، وفرضت حضورها بقوة التجربة، لا بالجدل النظري.

لقد دار الخلاف حول ماهية الشعر منذ قرون، بين من قصره على الوزن والقافية كما فعل ابن قتيبة، ومن رآه في جوهره حركةً لغويةً ومعنويةً كما ذهب ابن رشيق القيرواني الذي قال: إن الشعر يقوم على أربعة أعمدة: الوزن، القافية، اللفظ، والمعنى، تسبقها النية، أي قصد الشاعر وإرادته. وبهذا يكون الشعر عنده جوهرًا لا يُقاس بالشكل، بل بتآلف اللفظ والمعنى في وحدة جمالية متفردة.

منذ ذلك الحين، لم يستطع أحد أن يرسم حدودًا قاطعة للشعر، فهو يتفلّت من التعريفات، ويُفلت من كل الأطر التي تحاول حبسه في قوالب نظرية. ولو تأملنا هذا الجوهر المتملص، لعرفنا أن قصيدة النثر ليست طارئة على الشعر، بل هي استمرارٌ لجوهره الحرّ، وتعبيرٌ آخر عن روحه المتجددة. فكيف يُقصى نصٌّ يحمل في داخله كل مقومات الشعر، من كثافة المعنى، وانفجار الصورة، وتوتر اللغة، لمجرد أنه خالف شكل الأجداد؟

إن الرفض الذي واجه قصيدة النثر لم يكن فنيًا بقدر ما كان ثقافيًا وتراثيًا، فالبعض جعل من الماضي سلطة مقدسة لا تُمسّ، وعدَّ كل خروجٍ عليه تمرّدًا على الهوية، بينما الآخرون منحوا قصيدة النثر شرعية مطلقة دون أن يقدموا قراءة نقدية موضوعية تبرر هذا القبول. وهكذا ظل الجدل دائريًا بين طرفين متقابلين: مؤمنٌ بلا وعي، ورافضٌ بلا حجة.

غير أن الحقيقة الأعمق هي أن قصيدة النثر ليست خيانة للموروث، بل هي محاولة للارتقاء به، وإعادة بعثه بروحٍ جديدة تلائم العصر. فالشاعر الحديث لا يمكن أن يبقى أسير الأوزان القديمة وهو يعيش زمن الفضاءات المفتوحة، والإنسان الذي بلغ القمر لا يليق به أن يتغنى بخطى الناقة! إن لكل عصرٍ لغته وإيقاعه، وما كان يومًا صوتًا للبادية، أصبح اليوم نبضًا للمدنية والإنسان الكوني.

لقد أدرك شعراء الحداثة، وفي مقدمتهم أدونيس، أن العالم يحتاج إلى “رفضٍ يهزه”، وأن قصيدة النثر هي أسمى أشكال هذا الرفض داخل بنية الشعر، لأنها تمردٌ جماليّ لا يقطع مع الماضي بل يعيد تأويله وفق شروط الحاضر. إنها بحث دائم عن الحرية، حرية اللغة وحرية الإنسان، ورفضٌ لأي شكل يحدّ الإبداع أو يقيّد طاقاته.

وهكذا، فإن قصيدة النثر – بتمردها وانفتاحها – لم تلغِ ما قبلها من أشكال الشعر، لكنها أضافت إلى خزانة الشعر العربي صوتًا جديدًا، وصاغت للوجدان الحديث مرآة تعبّر عن قلقه وأسئلته وتطلعاته. إنها ليست نقيض العمود ولا الشعر الحر، بل هي امتداد طبيعي في سلسلة التطور الشعري، روحٌ جديدة في جسدٍ قديم، تذكّرنا بأن الشعر، في جوهره، ليس شكلًا، بل رؤيا تتخذ شكلها الخاص كلما تغيرت روح الإنسان.


مشاهدات 35
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/11/05 - 3:56 PM
آخر تحديث 2025/11/06 - 2:14 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 3843 الكلي 12365346
الوقت الآن
الخميس 2025/11/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير