الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
البارزاني ثلاث مفارقات وثلاثة دروس وثمة ذاكرة

بواسطة azzaman

البارزاني ثلاث مفارقات وثلاثة دروس وثمة ذاكرة

عبد الحسين شعبان

 

حين يلتقي الأدب بالذاكرة يحضر التاريخ ليكوّن مشهدًا مفتوحًا بتجلّيات الوجدان الإنساني، ولعلّ ذلك ما حدث في البرلمان العراقي في توثيق سردية حيويّة لرواية الصديق جان دوست، التي عنوانها «آخر معارك الجنرال»، والتي تناولت الفصل الأخير من رحلة الزعيم الكردي الملّا مصطفى البارزاني.

‏لم أكن قد حدّدت إطارًا لمحاضرتي، لكن عند دخولي قبّة البرلمان، ارتسمت أمامي ثلاث مفارقات وثلاثة دروس، كما قفزت أحداثًا بعيدة ظلّت حاضرةً في ذاكرتي، وهي أقرب إلى جسر بين الماضي والحاضر بالتطلّع إلى المستقبل.

‏المفارقة الأولى - إن الملّا مصطفى البارزاني يحضر في البرلمان العراقي بكل وزنه المعنوي وثقله الأدبي، فمن كان يتصوّر حدوث ذلك قبل ربع قرن من الزمن على أقل تقدير؟ ‏ فقد كان حين يرد اسمه في المحافل الحكومية الرسمية، يوصف بشتى الأوصاف غير السياسية من قبيل «قاطع طريق» و «متمرّد» وزعيم «الجيب العميل» وغير ذلك من الإساءات، لكنه اليوم حين يُذكر اسمه فإن صفاته التي يعرفها الشعب الكردي هي التي تتبعه كزعيم للحركة الكردية وقائد لثورة أيلول/ سبتمبر 1961، التي مثّلت طموح الشعب الكردي وعبّرت عن تطلعاته.

ادب وثقافة

‏المفارقة الثانية - إن هذه العودة جاءت عن طريق الأدب والثقافة، اللذان يوحّدان، في حين أن السياسة مفرّقة. وحسب الروائي الروسي الكبير مكسيم غوركي فالأدباء والفنانون هم من يكتبون التاريخ وليس المؤرخين. والبارزاني وإن كان تاريخًا، فهو مستمرٌ ومتواصلٌ وعابرٌ للجغرافيا كرمزية للشعب الكردي والأمة الكردية.

وكان الجواهري الكبير هو من عبّر عن ذلك في قصيدته الموسومة « كردستان أو موطن الأبطال»، والتي يقول فيها:

قَلبي لكُردِستانَ يُهدى والـــفَمُ ... ولقدْ يَجودُ بِأصـغَـرَيْهِ الـمُـعْدَمُ

إلى أن يقول:

سَلـِّمْ على الجَـبـلِ الأشَــمِّ وأهلـِـهِ ... ولأنتَ تـَـعــرِفُ عـنْ بــنـيهِ منْ هُمُ

ويصف البرزاني بالقول:

صُلبُ الملامحِ تتَّقي نظراتِه ... شهْبُ النُّسورِ ويَدَّريها الضَّيغَمُ

‏المفارقة الثالثة - أننا نجتمع في قاعة الشاعر البرلماني والوزير محمد رضا الشبيبي، وهذه رمزية أخرى، فالشبيبي كان من المناصرين للقضية الكردية، وكان قد كتب مذكّرة إلى الرئيس عبد السلام محمد عارف في العام 1965، طالبه فيها بحل القضية الكردية سلميًا، وحين عاد إلى بغداد بعد زيارته كردستان، توفّي في العام 1966.

‏أما الدروس الثلاثة فهي:

‏أولها - الواقعية السياسية وبُعد النظر الذي تحلّى بهما، وبقدر ما امتلك من صلابة مبدئية، فقد تمتّع بمرونة سياسية، تلك التي أمْلت عليه البحث عن حلول واقعية في ظلّ الدولة العراقية، بدءًا من المواطنة المتساوية والمتكافئة، إلى الحكم الذاتي في إطار حق تقرير المصير للشعب الكردي.

‏وينطلق البارزاني في ذلك من إيمانه الحقيقي بالعلاقة التاريخية العربية - الكردية، حيث كان مُستعدًا في جميع الأوقات والظروف إلى الحوار مع الحكومات العراقية المتعاقبة، وكان دائمًا ما يميّز بين مواقف الحكومات وبين مواقف العرب، ولذلك كان يعتزّ بصداقاته العربية، ونستذكر هنا أسماء شخصيات لامعة كان يكّن لها شديد الاحترام مثل: عزيز شريف وكامل الجادرجي وإبراهيم كبة وحسين جميل والسيد محسن الحكيم وجمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وغيرهم.

‏وثانيها - إن تحالف القوى والحكومات المعادية للكرد لابدّ أن يواجَه بتحالف من جانب أصدقائهم. وكان قد حُكم على البارزاني بالإعدام في كل من العراق وإيران في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي، وبالطبع فإن موقف تركيا لم يكن بأحسن حال من مواقف الحكومات التي تتنــــكّر لحقوق الشــــعب الكردي.

وقد اضطر البارزاني إلى اللجوء إلى الاتحاد السوفيتي بعد فشل جمهورية مهاباد في العام 1946، وإعدام القاضي ملّا محمد، وهو الأمر الذي أدرك فيه أهمية التضامن مع الشعب الكردي، أي تحويل الجغرافيا لصالحه وليس ضدّه.

‏ ثالثها - أدرك البارزاني أن اتفاقية 6 آذار/ مارس 1975 (اتفاقية الجزائر)، والتي تنازل فيها العراق عن نصف شط العرب حسب خط الثالويك لصالح إيران، أدّت إلى انهيار الحركة الكردية المسلحة، وذلك بسبب تواطؤ القوى الخارجية وتقديم مصالحها الأنانية الضيقة عليها، لذلك لابدّ من اعتماد الكرد على أنفسهم وعلى أصدقائهم الحقيقيين من أبناء المنطقة، ولا سيّما من العرب، لأن القوى الخارجية مهما أبدت من استعدادات لدعم الكرد، إلّا أنها في نهاية المطاف لا يهمّها سوى مصالحها، وقد يكون من بين أهدافها إضعاف الجميع لتبقى متحكّمة بهم.

 ونستعيد هنا ما ورد على لسان هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة في العام 1975، من مبررات لتخلّي واشنطن عن دعم الكرد بناءً على طلب طهران تمهيدًا لاتفاقية الجزائر المذلّة، كما ونستذكر هنا ما أكّده تقرير بايك المقدّم إلى الكونغرس بجلسة سرية العام 1976 من حجج وذرائع لذلك الموقف المتواطئ.

أمّا الذاكرة، فهي اللقاء التاريخي الذي جمعني بالملّا مصطفى البارزاني في مطلع شهر أيار / مايو 1970 وبعد بيان 11 آذار / مارس بين الحكومة العراقية والثورة الكردية، فقد زرته على رأس وفد إلى كلالة بصحبة الصديق ملازم خضر (الفريق سهيل نعمان التميمي)، وقد حضر اللقاء علي عبد الله وصالح اليوسفي وعلي السنجاري ومحمود عثمان، ثم وصل بعد ذلك عزيز شريف، وقد استقبلنا فرنسوا حريري.

استمعت إلى البارزاني وكأنه صوت من التاريخ، فهذا الذي أجلس إلى جانبه سليل أسرة عريقة، وهي صاحبة الطريقة النقشبندية، وكوني من عائلة دينية أعرف ماذا يعني ذلك، وهي أسرة مكافحة وشجاعة.

وروى لي كيف تمّ استباحة منطقة كردستان 17 مرّة، وأنه اعتُقل هو ووالدته في سجن الموصل وعمره 3 سنوات، وأعُدم شقيقه عبد السلام، وقد شارك مع الشيخ أحمد شقيقه في انتفاضة الشيخ محمود الحفيد (1919)، وعاش في الاتحاد السوفيتي نحو 12 عامًا.

طريق الشعب

وأتذكّر أنه كتب رسالةً (خطّها صالح اليوسفي) نشرناها في جريدة طريق الشعب السريّة (عدد حزيران / تموز 1970)، بخصوص سعيه لإطلاق سراح المعتقلين، وعمله من أجل جبهة وطنية تضمّ الجميع، وختمها بالآية القرآنية «ولا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها» [البقرة: 286]، وفي نهاية اللقاء أهداني مسبحة (صناعة يدوية) ومبسم سيجارة من صنعه، وبقيت أحتفظ بهما لسنوات، إلّا أنهما صودرا عند كبس أجهزة الأمن منزلي، مثلما صودرت مكتبتي الخاصة.

أختم بالقول، إذا كانت الرواية الروسية قد خرجت من معطف غوغول، فإن الحركة الكردية المعاصرة قد خرجت من جمداني (غطاء الرأس عند الرجال) البارزاني.

 


مشاهدات 48
الكاتب عبد الحسين شعبان
أضيف 2025/10/19 - 2:24 PM
آخر تحديث 2025/10/20 - 12:07 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 366 الشهر 13379 الكلي 12153234
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير