الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عودة إلى مزرعة الحيوانات


عودة إلى مزرعة الحيوانات

عبد الحسين شعبان

 

لا يرتقي العمل الإبداعي الكلاسيكي إلى مصاف العالمية إلّا في قدرته على تجاوز المباشرة والآنية ليحتلّ مكانه تاريخيًا عبر أجيال تسجّل له الخلود وكأنه يعبّر عنها في راهنيته بقدر تاريخيته، ومن هذه الأعمال الرواية الشهيرة الذائعة الصيت "مزرعة الحيوانات" لمؤلفها جورج أورويل، التي مضى على نشرها 80 عامًا، فقد صدرت حين كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها العام 1945، وكان الاتحاد السوفيتي قد خرج منها منتصرًا، ومثّل ستالين زعيمه مستقبلاً واعدًا في ظل الصراع الكوني السائد حينها لدى قطاعات واسعة من تلك التي كانت تفقد ثقتها بالنظام الرأسمالي ومستقبله، لاسيّما بعد مساهمته الكبيرة في القضاء على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكريتاريا اليابانية.

وهنا يمكن استذكار ما قاله الشاعر الكبير الجواهري في قصيدته الموسومة "ستالينغراد"، التي نظمها في العام 1943 (93 بيتًا – بحر الرمل) والتي يبشّر بها بصعود الاشتراكية وسقوط النازية، وخصوصًا بامتداح ستالين:

يا " ستَالينُ " وما أعظمَها / في التهجي أحرُفاً تأبى الهجاء

وعلى الجرفين " عظمان " هما / رمزُ عهدَيْنِ انحطاطاً وارتقاء

 

لكن السؤال الكبير والمحيّر: ما الذي مكّن أورويل من كتابة تلك الرواية برؤية مستقبلية، حتى وإن كان الحاضر بائسًا؟ وكيف استطاع الولوج إلى مجتمع كان كل شيء فيه مكبوتًا وغامضًا، حيث قام بتحليل النفس البشرية بما فيها من قسوة وأنانية وخوف.

 كنت أحاور صديقي الروائي شمران الياسري (أبو كاطع) في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حول رواية أورويل، فقلت له وأنا أطالع مسودات مخطوطة له بعنوان "مملكة الضبع الأكبر"، والتي نشرتها في كتابي "أبو كاطع - على ضفاف السخرية الحزينة" (1997) المتأثرة برواية "مزرعة الحيوانات"، لا تتصوّر أن هذه المزرعة هي في بلادنا فحسب، بل هي موجودة هنا حيث نقيم في الفردوس الاشتراكي (براغ)، فقد سمعت قصصًا وحكايات عمّا حصل لأصحاب الرأي والمختلفين مع إدارة الحزب القائد بعد "ربيع براغ" المُجهض العام 1968 وربيع بودابست (1956)، الذي تحوّل إلى شتاء قارص بالدبابات السوفيتية. وكانت تلك فرصة للتأمّل والمراجعة التدرجيّة بجانبها الفكري أولًا، ثمّ بمقاربات أوسع.

كانت رواية "مزرعة الحيوانات" التي أعدت قراءتها أكثر من مرّة قد منحتني قدرةً أكبر على رؤية بعض الحقائق والتناقضات، وهو ما عرفته لاحقًا حين اطّلعت على ميثاق 77، الذي تضمّن احتجاجات على شحّ الحريّات وهدر حقوق الإنسان، وكان ذلك بمثابة مقدّمة لانتفاضة العام 1989.

حكاية أورويل الخرافية عن مملكة حيوانية تمثّل أداة تشريح لمسار عدد من الدول الاشتراكية وفي مقدّمتها الاتحاد السوفيتي، وهي وإن تأثّرت بالدعاية الغربية كثيرًا، لكنّها كانت مرآةً عاكسةً للسردية الستالينية تنظيرًا وممارسة عبر سوسيولوجية عميقة وأنثروبولوجيا شاملة.

يمكنني القول أن الكثير من الأعمال التي صوّرت حالة أنظمة شمولية مثل الحقبة الستالينية أو ما يشبهها، خصوصًا في بلدان العالم الثالث، لكنها لم تكن قادرة على البقاء والاستمرارية مثلما هي "مزرعة الحيوانات"، التي صوّرت الجموح للسلطة والشهوة للتسلّط بردع وإخافة الناس ضمن منهجية ديناميكية قادرة على الإرعاب والإخضاع من جهة والتسيّد والهيمنة من جهة أخرى.

 وبتقديري أن المسألة تتجاوز الحقبة الستالينية، بل أنها تصلح لمحاكمة أنظمة أخرى عاشت المرحلة التوتاليتارية مثل الماوية والبولبوتية والشاوشسكية والأنورخوجية وغيرها، إضافة إلى الأنظمة النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية، ثم الأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية العراقية الصدامية والسورية الأسدية والليبية القذّافية والسودانية البشيرية وغيرها.

 وفي كل هذه المنعطفات والانقلابات الحادّة أكلت الثورة المزعومة أبناءها، وغالبًا ما وقع الجيل الأول ضحية إرهاب وتصفيات وانتقام وصراع على السلطة، وتحوّلت تلك الأحلام النبيلة إلى كوابيس مرعبة، وأصبحت الشعارات البسيطة والمعقولة الداعية إلى الحريّة والكرامة والعدالة مجرّد امتيازات لأصحاب القرار والماسكين بالسلطة، وكان الخنزير (سكويلر) وزير الثقافة حسب الرواية يبرّر اختفاء أغذية بزعم أن إدارة المزرعة تحتاج إليها لعملها الفكري، وهكذا أصبح التمييز مشرعنًا وحكرًا على البيروقراطية المتحكّمة، أما جهاز الأمن الخاص (الكلاب التي تمّت تربيتها سرًا)، وفقًا لأورويل، فهي مزيج من الإعلام والدعاية والتسويغ الأيديولوجي والقمع البوليسي الفيزيولوجي.

إذا أردنا اليوم إدراك المعنى الأخلاقي لمزرعة الحيوانات، فإن الشعبوية في ظلّ النظام الرأسمالي السائد والمتنفّذ، هي التي تستحقّ ما ورد على لسان أورويل من نقد وتسليط ضوء على توحّشها. وكان أورويل قد حذّر من أن مجرد التخلّص من الاستبداد سيظهر قادة آخرون مستبدون، وهؤلاء هم اليوم من يتحكّم بالمزرعة، أو قل بمزارع الحيوانات المختلفة.

لعلّ لغة الرواية بما تحمله من دلالات هي التي يمكن أن تجعل المجتمع أشد قسوة حتى أكثر مما ورد فيها. وبغض النظر عن الأيديولوجيا، سواء كانت اشتراكية أم رأسمالية، علمانية أم دينية، يسارية أم يمينية، فإن لغتها حين تسيطر تفرض نظامها الشمولي وتضع وصايا بمثابة تعليمات، كما هو وارد في الكتاب الأحمر والكتاب الأخضر وما العمل وفلسفة الثورة وغيرها، تضخّها بوسائلها الدعائية المختلفة لتصبح التزامات على الناس، لا ينبغي عليهم مخالفتها وإلّا سيتعرضون للعقاب.

وبالطبع فالوصايا تشمل الناس العاديين (سكان المزرعة) وليس الإدارات العليا البيروقراطية المتسلّطة، التي يصبح الفساد في عرفها الديني وغير الديني مشرعنًا، والإرهاب مبررًا والتغوّل على الدولة مقبولّا.

 بغض النظر عن الاتهامات الموجهة إلى أورويل، إلّا أنه جعلنا بقراءة روايته نشعر بثقل الاستبداد على الصدور وفي النفوس والعقول. إنها إدانة لكل قمع وكل عنف وكل قهر لإنسانية الإنسان. وقد يكون دافعًا لمنح الإنسان الأمل والقدرة على المقاومة والتحدّي.

مفكّر وأكاديمي


مشاهدات 66
الكاتب عبد الحسين شعبان
أضيف 2025/10/05 - 3:38 PM
آخر تحديث 2025/10/06 - 4:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 113 الشهر 3526 الكلي 12043381
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير