دينار ونص يهزم مليونية الفتاوى
أحمد جاسم ألزبيدي
في مدينتي الصغيرة المحاويل، المطلة على نهرها المعروف بـ”المجرية”، كبرت وشربت من مائه، وكدت أغرق فيه وأنا طفل لولا شجاعة أختي ليلى التي انتشلتني من شعري، فأنقذتني من موت مبكر. لكن حديثي اليوم ليس عن المجرية التي ابتلعت أرواحًا كثيرة من الأحبة والأصدقاء، بل عن قصة أخرى أغرب من الغرق: قصة قسمٍ لا يضاهيه قسم.
عمّي الحاج عمران أبو كريم، رحمه الله، كان من كبار التجار، يجلس أمام دكانه عصرًا وحوله وجهاء وأصحاب عمائم، أبرزهم الشيخ محمد القريشي بعمامته البيضاء التي طالما حلمنا نحن الصغار أن نضعها على رؤوسنا. مرةً تجرأ أحد الصبية فاختطف العمامة وركض، فلاحقوه حتى أعادوها إلى الشيخ، بينما نحن نضحك من شقاوة صديقنا فاضل علي الفرحان، الطفل الذي لا ينضب خياله في إطلاق النكات.
المهم، أن عمّي – رغم غناه – كان يواجه مأزقًا لا يُحسد عليه: عشرات الناس يطرقون بابه يطلبون الدَّين، وكلهم – كما نعرف – لا يوفون بوعودهم. وفي أحد الأيام، طلب من صديقه أبو جاسم قرضًا صغيرًا، دينارًا ونصفًا فقط! تعجب أبو جاسم، لكنه أعطاه. مرّت الأيام ولم يُسدد عمّي الدين. فسأله صاحبه مازحًا:
-أبو كريم! شنو؟ ما عندك دينار ونص؟
ابتسم عمّي وأجابه:
– عندي خير من الله، بس هذا الدينار ونص مخليهن للقَسَم! كلما يجي واحد يطلب فلوس، وما أريد أعطيه، أقسم بوجه الله أنني مديون لأبو جاسم… وهكذا أرتاح! والشيخ القريشي أفتى لي إن قسمي صحيح وما به عيب .
هكذا ابتكر عمي “الحيلة الشرعية” قبل أن تصبح موضة على الفضائيات. قسم صادق… لكنه صادق للتحايل من قبل الكاذبين !
واليوم، ما أكثر الأقسام: سياسي يقسم أن لا يفرّط بالوطن ثم يفرّط بترابه، مسؤول يقسم أن ينام على الإسفلت وهو ينام على ملايين، آخر يظهر على الشاشات مدّعيًا أن بيته للإيجار وسيارته “مجرقعة”، بينما قصوره تطل على الأنهار. أقسام تبرَّر بالفتاوى، وتغطَّى بعباءات الدين، وتُختم بشعارات “المجرب لا يُجرب «.
لكن شتّان بين قسم عمي أبو كريم – الذي لم يضر به أحدًا، بل وجد فيه وسيلة أنيقة لتفادي ديون ضائعة – وبين أقسام الكبار التي تغرقنا يوميًا… لا في المجرية، بل في بحر الأكاذيب.
والحكم لكم يا أحبة ...
فأقسام زمان كانت بـ”دينار ونص”، واليوم أقسامهم بلعت الدينار، والنفط، ونص أعمارنا… وكلها باسم “وداعتك والله الشاهد ! “