إصلاح الحوكمة في العراق: من مواجهة الفساد إلى إعادة صياغة العقد السياسي
محمد علي الحيدري
الحوكمة في العراق ليست ملفًا إداريًا يمكن إصلاحه عبر تعديل اللوائح أو إدخال أدوات تقنية، بل قضية سياسية تمس جوهر الدولة: طبيعة العقد الذي يربط الحاكم بالمحكوم، وكيفية إنتاج السلطة وتوزيع الموارد. فالفساد هنا لم يعد مجرد خرق للقوانين، بل تحول إلى نظام موازٍ لإدارة الشأن العام، يعيد إنتاج نفسه عبر شبكات النفوذ والزبائنية التي تتغلغل في مؤسسات الدولة.
ينشأ هذا النمط من الفساد في بيئة يغلب عليها اقتصاد الريع، وضعف البنية المؤسسية، وانهيار الفصل بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة. شبكات الزبائنية لا تعمل خارج السياسة، بل هي جزء من توازنات القوة الداخلية، توفّر للحكام أدوات احتواء ومساومة، وللمستفيدين ضمانات بقاء. لذا فإن أي إصلاح يقوم على القوانين وحدها أو على الحلول التقنية البحتة، يتجاهل جوهر المسألة: من يملك المنفعة سيقاوم التغيير، أو يسعى لتحويله إلى إجراءات شكلية لا تمس جوهر الامتيازات.
آثار الفساد ليست نظرية. هي تتجلى يوميًا في تدهور الخدمات، وانهيار البنية التحتية، وتراجع ثقة المواطن بالدولة، واعتماده على الوساطة والعلاقات الشخصية لتأمين احتياجاته. على الصعيد الاقتصادي، يختنق الاستثمار، وتتآكل فرص النمو، وتتحول المنافسة إلى احتكار محمي لمجموعات محددة. وسياسيًا، يصبح الفساد ساحة صراع تُستثمر فيها الأزمات، ويُستخدم أداة لتفكيك أي مشروع إصلاحي يهدد بنية الامتيازات الراسخة.
المعالجة الحقيقية لا تبدأ من شعارات “مكافحة الفساد” بصيغتها الإنفاذية، بل من إعادة صياغة العقد السياسي والاجتماعي. عقد وطني جديد — ليس بالضرورة وثيقة رسمية واحدة — بل منظومة اتفاقات سياسية ومؤسسية تعيد تعريف تقاسم السلطة والموارد على أسس شفافة، وتقطع أوهام الحماية المطلقة للمصالح الخاصة. هذا العقد يُبنى عبر تحالف اجتماعي واسع، يمنح مختلف الفئات فوائد ملموسة من تحسين الحوكمة، ويجعل الإصلاح مصلحة عامة لا مجرد تهديد للنخب.
خارطة الإصلاح تتطلب خطوات مترابطة:
• شفافية مالية شاملة في إدارة الموارد السيادية، مع نشر العقود والمناقصات وفتح الحسابات العامة للرقابة الشعبية.
• استقلالية وفعالية أجهزة الرقابة والقضاء، مع تحصينها قانونيًا وإداريًا ضد التدخلات السياسية والمحاصصة.
• إصلاح الإدارة العامة بتحويل الوظيفة إلى مهنة قائمة على الكفاءة والإنجاز، واعتماد نظم توظيف وتقييم أداء تمنع التعيينات الوهمية وتغلق أبواب الفساد الوظيفي.
• تحديث آليات الشراء العام عبر منصات إلكترونية شفافة ومراجعات مستقلة تقلص فرص التلاعب وتزيد كفاءة الإنفاق.
لكن الخطة لا يمكن أن تبقى تقنية باردة. يجب تمكين المجتمع المدني والإعلام الاستقصائي من تحويل الشفافية إلى ضغط دائم، وتشريع قوانين لحماية المبلغين والصحفيين. كما أن البعد الدولي ضروري: استرداد الأموال المنهوبة، ومراقبة التحويلات المالية العابرة للحدود، وبناء شراكات رقابية مع مؤسسات إقليمية ودولية.
الخبرة الدولية تشير إلى أن الإصلاح الشامل المفاجئ في بيئة سياسية ضعيفة قد يثير ردود فعل معاكسة. لذلك، فإن استراتيجية “الانتصارات الصغيرة المتراكمة” — أي البدء بإجراءات تحقق فوائد فورية وملموسة للمواطن، ثم توسيع نطاقها تدريجيًا — تخلق رصيدًا من الثقة يمهّد الطريق لإصلاحات أعمق وأكثر حساسية.
يبقى التحدي الأكبر هو تحييد مؤسسات مكافحة الفساد عن الصراع السياسي، وضبط عملية المساءلة بحيث لا تشل الدولة ولا تشعل أزمات جديدة. العدالة الانتقالية المتدرجة، التي تجمع بين المساءلة والتعويض وإصلاح الأضرار، يمكن أن توفر توازنًا بين إنفاذ القانون وضمان الاستقرار.
في الجوهر، الحوكمة في العراق ليست رفاهية مؤسسية، بل معركة على مستقبل الدولة. ومكافحة الفساد لا تعني مطاردة المخالفين فحسب، بل اقتلاع آليات إنتاجه، وتغيير قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية. وعندما تصبح الشفافية والكفاءة والعدالة جزءًا من حسابات النخبة والمجتمع معًا، تتحول الحوكمة من شعار إلى منظومة تمكّن الدولة من استعادة ثقة الناس وضمان استقرارها وفتح أبواب نهضتها.