الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة في  مجموعة هدير الجبوري القصصية  (خطوات وذكرى)


طفولة ليست عابرة..

قراءة في  مجموعة هدير الجبوري القصصية  (خطوات وذكرى)

 فخري أمين 

 

في لحظة ما يمكن للأشواق أن تحيل أشياء العالم إلى مجرد كلمات، أو اختزاله في بضع سطور، أو رموز. قصيدة شعر، أو معزوفة موسيقى، أو نص ما، أو لوحة. لكن الكاتبة والصحفية العراقية هدير الجبوري في مجموعتها القصصية الجديدة خطوات وذكرى، تبدو مصرة على استدعاء الأشياء والشخصيات والأحداث المرتبطة بطفولتها، وعرضها في قصص، هي أقرب إلى متحف سردي لعلاقتها الحميمة بتلك الحقبة الجميلة من حياتها، مع بطاقة دعوة أنيقة لزيارتها.

" كتاب للحنين.."

دمية من قماش، فستان قديم، عارضة سينمائية بدائية، ورقة منسية، بيوت، سطوح، حدائق، أزقة، هيفاء، سلمى، سحر، شذى، ليلى، فدوى، أسماء، سهير. صديقات مدرسة، وجيرة، وقريبات. أمها وأبيها وشقيقاتها وأشقائها. حكايات، وأحلام. قصص نجاحات وخيبات. بطلاتها في الغالب من الطالبات الصغيرات، وهن يعشن على حافة الأنوثة، أول تجارب الحب العابرة في حياتهن. استطاعت هدير الجبوري بقوة الحنين في لغتها، وشاعرية الحنين، وسحر الحنين، أن تضع كل أشياء هذا العالم الطفولي المتسع بلا حدود في علبة كارتون صغيرة تشبه الكتاب، وتقدمه إلينا في كاليري من ورق لتقول لنا، هذه أنا، هذه أشيائي وينابيعي، هذا عالمي الذي جئت منه.

" لعبة امتلاك الأشياء.." 

تعلمت هدير هذه اللعبة الساحرة، اعني لعبة تصغير الأشياء الحميمة وامتلاكها بحيث يكون في الوسع حملها في حقيبة، أو وضعها في جيب، من حلمها الطفلي القديم يوم قالت لأمها أنها لو تستطيع حمل جهاز التلفزيون، في جيب فستانها مثلا لكي تستمر في السهر ومشاهدة  المسلسلات والحكايات.  إن السؤال الذي يطرح نفسه بإزاء قصص هدير، هل الكلمة ممكنة بصريا..؟ هل بوسع الكلمة أن تكون شيئا أو رسما على الورق، أعتقد أننا غالبا ما نرى الكلمة قبل أن نفكر في المعنى..؟ يبدو رهان هدير في هذه المجموعة كمعظم الكتاب على مسألة العلاقة بين الكلمات والأشياء  كبيرا جدا.

" إنتظارات.."

في معظم حكاياتها الجميلة تعيش المرأة حالة انتظار، وهو نوع من قدر، يعود إلى ثقافة مجتمعنا، لكن فتياتها في النص لا يمضين تلك اللحظات في ضروب من اليأس والخيبة والخذلان، إنها تحول تلك الإنتظارات إلى تداعيات جميلة، تفيض بقوة الأنوثة، وجمال الأنوثة، ووجع الأنوثة، وحكمة الأنوثة. يتدفق الشعر في صفحات مجموعتها القصصية بحساسية أنثوية لا تخطئها عين، إن ما تسطره المرأة المبدعة من نصوص، حتى حين تستعمل الكلمات نفسها التي يستخدمها الرجال لا يمكن البتة أن يتشابها وفي هذه النقطة خصوصا يبدو الفارق بين الكتابة النسوية الأصيلة، وغيرها من الكتابات النسوية الملتبسة الهوية. في هذه المجموعة القصصية نقع على فيض من جمال الروح الأنثوية، وسحرها، وهي تجرب أول مغامراتها في هذا العالم، ويشكل الانتظار السمة الغالبة عليه.  

"الحساسية اللغوية.."

في نصوصها تعاني هدير الجبوري من محنة أو ربما لذة العيش بين زمنين، تبدو كأنها حتى في هذه اللحظة ما تزال عالقة تماما بينهما. ما تزال تتلفت إلى أيام طفولتها، باحثة عن شيء ما، عن شخص ما، عن روح غائبة تشتاق لعذوبتها ربما، عن حكايات لم تتيقن بعد من نهايتها، عن صديقات صغيرات ما تزال أصواتهن الناعمة تتصادى في مسامعها. عن أسرار شجرة أو زهرة في حديقة، عن مصير ملاك صالح يقطن السطح، على نحو يحملنا على التساؤل. هل كانت هدير وهي تمارس الكتابة بحاجة أن تمد يدها إلى عالم الطفولة لكي تكتشف في نفسها جماليتها الشفافة، وتختبر حساسيتها اللغوية، وموهبتها في الأداء السردي الأنيق..؟  أم أن الاتصال بطفولتها يحقق لها نوعا من نشوة التلذذ الطفلي، أو لعل عالم الطفولة ما يزال يسكنها، وليس بوسعها الاستغناء عنه،  فهو يلاحقها مثل ظلها تماما، ملازما لها بوصفه الأصل..؟ في كل الأحوال، إن الاهتمام بأشياء عالم الطفولة بمعزل عن أية منفعة، يحقق للجمال في قصصها وجودا أو ظهورا ساميا ومتعاليا.

هدير الجبوري في مجموعتها القصصية خطوات وذكرى، تحصي خسائر عمرنا الكثيرة والكبيرة، متمثلة في عالم من البراءة والحب والنقاء، عالم الطفولة الأولى والصبا الأول، محركة في أعماقنا رياح الحنين إلى تلك الأيام.

 


مشاهدات 29
الكاتب  فخري أمين 
أضيف 2025/08/05 - 3:37 PM
آخر تحديث 2025/08/06 - 2:19 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 100 الشهر 3795 الكلي 11298881
الوقت الآن
الأربعاء 2025/8/6 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير