الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حالة خاصة

بواسطة azzaman

حالة خاصة

نبراس المعموري

 

لم تكن سوى دقائق قليلة، أمتدت لتغدو ساعات، وأنا أتابع مسلسل “حالة خاصة”. شدني إليه ذلك التفرد في التناول؛ توحد لم يقتصر على البطل المصاب بالتوحد، بل انسحب ليشمل الرؤية الإخراجية والدرامية لمسارات شائكة: مهنة المحاماة، صراعات الهجرة، تفكك الروابط الأسرية، وتنمر من يتوهمون الأفضلية. لكن الأهم كان توحد الرؤية في تفسير الخيانة، وفي منطق الربح والخسارة، حتى في لعبة مثل “من سيربح المليون”.

قد يبدو ما أكتبه أشبه بلغز أو سرد مستفز لصحفية استوقفتها “حالة خاصة”، لتدرك أن الحالات الخاصة ليست نادرة، بل نحن جميعًا نمتلك منها نصيباً. ولكن، تبقى حالة التوحد الاستثناء الوحيد؛ لأنها حين تصيب فرداً، تُصيب بيتاً بأكمله، وتحتاج في التعامل معها إلى صدور رحبة، ومحبة خالصة، وإنسانية صادقة، وتفانٍ لا يشبه سواه.

هذا المسلسل كان الشرارة الاولى  التي دفعتني للمقارنة؛ بين ذلك الشاب الذي حول إعاقته إلى بوابة عبقرية، وبين كثير من شبابنا الذين رزقهم الله نعمًا جمّة، لكنهم أهدروا كل شيء بإرادتهم؛ بسبب الكسل، واللامبالاة، وأحياناً، قلة التهذيب. فصاروا بدورهم “حالة خاصة”، ولكن في السلبية والانحدار.

اما الشرارة الثانية في رحلتي مع “الحالات الخاصة” ابواب فتحت لحالات أخرى لا تقل فرادةً وعمقا، سواء في الإعلام، أو السياسة، أو حتى في التعليم الذي تنحّى بعضه عن أداء دوره الطبيعي. كلها منظومات استندت إلى عناوين براقة تخفي خلفها فراغا مخيفًا في الجوهر. ويبدو أن الإعلام والسياسة هما الأقرب لتلك “المسلمات الحياتية” التي تستنزفني بالتفكير والأسئلة: من أين أبدأ؟ وإلى أين أمضي؟

ففي كلا المجالين، صادفت نماذج غريبة، عجيبة، تتغذى على الواقع لكنها في جوهرها مفصولة عنه. في السياسة كما في الإعلام، تجد من يدعي “النبوة”، لا فرق كبير بينهما: كلاهما بارع في التمويه، محترف في الخداع، يلبس الفساد عباءة الإصلاح، ويغتسل بالكذب والنفاق كل صباح.

هؤلاء لا يبدعون، بل يلوثون. لم يأتوا من فراغ، بل صنعوا لأنفسهم “نبوءات” تخدم مصالحهم، وتبرر زيفهم، وتشرعن نفاقهم، وتسوقهم على أنهم “إصلاحيون”، بينما هم في الحقيقة جوهر التدهور والانحدار. لقد شكلوا حالة خاصة، نعم، ولكن بسلبية فاضحة لا إيجابية خلاقة.

ما نحتاجه فعلًا هو أعمال تقترب من الواقع، تزعزع البنى الكاذبة، وتفكك خوارزميات الفساد المتجذرة في السياسة والإعلام. نحن بحاجة إلى “حالة خاصة” تصنع الفرق، تنتج الوعي، تقصي الملوثين، وتعلي من شأن الكفاءات، لتعيد للإعلام والسياسة دورهما الحقيقي: أداة إصلاح لا مسرح تزوير.

ها أنا اليوم، في متاهة هذا التغيير، أكتب وأبتسم وأنا أرى ذلك الشاب الصغير بطل المسلسل كيف حول عزلته إلى حالة خاصة، عجز كثيرون عن الوصول إليها. بينما آخرون حرصوا على تعميم فشلهم، فحولوا مؤسسات وقرارات ومجتمعات كاملة إلى “حالات خاصة” من الانهيار والتفكك، مكتفين بالمشاهدة من بعيد، وكأنهم ليسوا من هذا الواقع.

ان الحالات الخاصة، حين تبنى بوعي ومسؤولية، تتحول من استثناءات معزولة إلى مفاتيح حقيقية للتغيير، لا إلى شواهد على الخراب أو مبررات للانهيار.

ولكي نصنع حالتنا الخاصة الفاعلة والمثمرة، علينا أن ننطلق من إحساس صادق بالمسؤولية والانتماء، وأن ندرك أن هذا المحيط الذي نعيش فيه لا يتشكل من تلقاء نفسه، بل نحن من نعيد تشكيله بإرادتنا، بإيماننا، وبوعينا بقيمة “الحالات الخاصة” التي تستحق أن تُحتذى لا أن تُستغل.

 


مشاهدات 46
الكاتب نبراس المعموري
أضيف 2025/08/03 - 2:31 PM
آخر تحديث 2025/08/05 - 8:07 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 265 الشهر 3210 الكلي 11298296
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/8/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير