الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
السعودية من دولة الفقه إلى دولة الحياة

بواسطة azzaman

السعودية من دولة الفقه إلى دولة الحياة

علي لفتة سعيد

 

لم تكن السعودية حتى سنواتٍ خلت إلّا منطقة لإنتاج فقه الدين التي تتصارع فيما بينها، وبينها وبين فقه الآخرين من المذاهب الأخرى، بل حتى داخل المذهب الواحد. وكانت السعودية تُعد منطقة حج ونفط، وتخريج الآلاف بل مئات الآلاف من شيوخ الفقه وخطباء المنابر التي اتّسعت وتحوّلت إلى منابر فضائيات في هذه الدولة أو تلك. حتى بات الصراع وتناميه يأتي على البنى التحتية الثقافية للسعودية ذاتها بعد أن اتسعت الهوة والصراع الفقهي والمذهبي والجغرافي.

لكن الحقيقة الجديدة تبدو مختلفة، وهي لا تكون بالخط الموازي للماضي القريب، بل إلى الزمن الذي نعيشه. وكأن الزمن استدار لدورة كاملة، ليس ليعود إلى النقطة ذاتها، بل ليبدأ الدوران من جديد في تغييرات جذرية كاملة. وكأن الأرض قد انقلبت، لكن ليس ليكون سافلها عاليها، بل لتم الزرع من جديد، وتحولت الأمكنة إلى ضوء من أضوية العصر الراهن، وبناء حضارة جديدة لا تلتفت إلى ما مضى، بل إلى ما يمكن أن يتطلع إليه.

بنى تحتية

الأمر ليس سهلًا في مجتمع مثل المجتمع السعودي، الذي يضم عددًا من الخطباء بما يعادل ثلث عدد الخطباء في العالم الإسلامي. لأن البنى التحتية التي سارت عليها المملكة منذ تأسيسها حتى اليوم هي تراكمات من العقل الفقهي الذي ينبني في أحد أوجهه على الصراع مع الآخر والدفاع عن فكرة أو مجموعة أفكار لا تندرج ضمن المنافع الدينية بقدر ما تكون أساسًا للتمدد والصراع، والتي تقف وراءها العديد من الأسباب الداخلية والخارجية، وأسباب التأسيس الفقهي وما تلاه منذ القرون الهجرية الأولى.

الأمر لم يكن سهلاً. لأن هذا يحتاج إلى قوة دافعة، قوة سلطة تكون لها القدرة على المواجهة والقدرة على الإقناع. أي العمل بأيدٍ ولسانٍ واحد، فإذا تعددت الأيدي واختلطت وتنازعت وتشظت، سيذروها الرياح. وهو ما فَهِمه العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز حين عيّن ولي العهد، ابنه محمد بن سلمان، الذي درس وعرف كيف يسير العالم. ليس بالنفط والفقه، بل ببناء الإنسان وفق منظومة فهم الدولة وأمورِها، وكيفية تمشيتها وتقديم الخدمات لها. فهم أن الحياة تتقدم، ولا يمكن البقاء في ذات المنطقة التي جعلت من هذه الدولة/ المملكة أن تبقى تمشي ورأسها إلى الخلف، كما هي شعوب دولنا العربية التي تتنازع بين الحضارة العلمية الجديدة وبين الأقوال التي لم تثبت صحتها، بل توضح أنها أقوال وروايات موضوعة، كان انبثاقها سياسيًا أكثر منه دينيًا.

منذ 21 حزيران/  يونيو 2017، حين أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمرًا ملكيًا بإعفاء الأمير محمد بن نايف من منصبه وتنصيب محمد بن سلمان وليًا للعهد، والمملكة تتقدم في كل يوم ألف خطوة، وتدفع بالمنابر التي أعطت الصورة الواحدية عن السعودية إلى الخلف. نعم، كان الرهان قويًا وفيه اتهامات عديدة.

واقع مرير

لأن الإصرار في مكان والضحايا في مكان آخر، ولا حركة تصحيحية بلا أخطاء أو حتى ممارسات قد تبدو خارجة عن المألوف، لكنها ضمن مألوف الدول التي تريد أن تبني بناها التحتية، وخاصة العقلية والمالية والاقتصادية لمغادرة الواقع المرير الذي كانت عليه.

القوة والرشد والتقدم، حتى لو كان مخالفًا للكثير من آراء الدول الأخرى، فالخطوة الأولى تبدي قلق الخطوات، وهو ما رأيناه من نجاح كبير. كان آخر هذا النجاح أن ترامب، الذي يعد رئيس أقوى دولة في العالم، يفضل زيارة المنطقة وعلى رأسها السعودية في أول زيارة له خارجية. قد يقول البعض إن الأمر اقتصادي، فيه تنازل من السعودية عن الأموال وما يُطلق عليه «الحلب»، لكن الإجابة على هذا الاتهام: ماذا لو كان من أطلق الاتهام أمام أحد خيارين؟ أن تخسر الأموال ذاتها في الحروب وما لها من خسائر في البشر والتدمير والتشريد والنزوح وتأخير الواقع إلى مئات السنين؟ أم صرف الأموال وتقوية الاقتصاد والبروز كقوة في المنطقة تُعطى رأيها فيُؤخذ به، كما فعلت مع رفع العقوبات عن سوريا، وما يمكن أن تفعله في حل الدولتين بالنسبة للقضية الفلسطينية، بدلًا من رفع الشعارات التي أدت إلى تدمير كل شيء وتحولت غزة إلى متحف لعرض الدمار الشامل.

قد لا يكون الكلام مقبولًا من أصحاب المشاريع الحربية، لكن الحقيقة تقول: إن السعودية تغيرت. وأنها الآن في منطقة التفاعل مع الحياة. وأنها تحولت من دولة فقه إلى دولة بناء الإنسان بطريقة العلم والحياة وفهمها. وما يتطلبه الأمر هو أن يكون التغيير مبنيًا على أساس احترام الإنسان في الدولة، والأقرب من الدولة في المحيط، وليس كما يشيع البعض أنه تغيير من أجل الحفاظ على الحكم. والصورة هي أن لا حكم يخاف عليه، فقبضة القانون أقوى، وقد بدأت هذه الحكومة في خطواتها الأولى بإزاحة كل تراكمات الصورة النمطية، سواء في الشخصيات التي كانت تستحوذ على كل شيء مستغلة الفقه والمتاجرة فيه.

 إلى وجود شخصيات تؤمن بأن الحياة هي أن تحياها بصدق.

 

عوامل ظاهرة

ما يمكن ملاحظته ليس وليد زيارة ترامب وتأكيد القوة التي ظهرت في السعودية، بل إن الملاحظات قد بدأت منذ التحول الذي شهدته المملكة، خاصة بعد تعيين الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد. كان واضحًا أن هناك رغبة في التغيير الجذري، خصوصًا في تبني سياسات تنموية متجددة وتحسين صورة المملكة على الساحة الدولية. الأمير محمد بن سلمان طرح رؤية 2030 التي تضمنت محاور هامة، منها التحول الاقتصادي، والتنمية الاجتماعية، وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن الاعتماد على النفط. أكدت رؤية 2030 على أهمية دعم القطاعات غير النفطية مثل السياحة، الثقافة، والفنون، مما ساعد في دفع المملكة نحو التحول إلى قوة ثقافية وفنية في المنطقة.

وصلت نسبة الاعتماد على النفط إلى 50% مما كانت عليه قبل التغيير، وتم تقليل حجم الاعتماد الفقهي إلى أكثر من ثلثي ما كان عليه. هذه الرؤية كانت تهدف إلى إعادة تعريف الهوية الثقافية للمملكة، مما انعكس في العديد من الفعاليات الثقافية والفنية مثل المهرجانات الفنية، الصناعة السينمائية، أسابيع ومعارض الكتاب، بالإضافة إلى الانفتاح على مختلف فنون العالم. كما ساعد هذا التوجه في إنشاء العديد من المؤسسات الثقافية والفنية، مثل أوبرا جدة، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي، وظهور اهتمام متزايد بتنظيم الفعاليات الثقافية والفنية مثل مهرجانات الموسيقى والمسرح، ودعم الفنانين المحليين والعالميين.

إلى جانب ذلك، كان هناك القدرة على الانفتاح على دول كانت تعد من عوامل تصلب الفقه اتجاهها، مثل إيران، فعملت السعودية على تعزيز علاقاتها الاقتصادية، الدبلوماسية والثقافية. وهذا يعد من أفضل الطرق لجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في قطاع السياحة والتعليم.

لم تقتصر المتغيرات على العلاقات الخارجية فقط، بل شملت أيضًا تغييرات اجتماعية مهمة، كانت من أهم الأسباب التي ساعدت في مواصلة الطريق نحو التحول. من أبرز هذه التغييرات حقوق المرأة وفتح الفرص الاجتماعية التي كانت مغلقة في السابق بسبب بعض الآراء الفقهية المتصلبة والمتعصبة. فقبل التغييرات، كانت المرأة محرومة من قيادة السيارات، ومن دخول الملاعب وممارسة الرياضة. بل إن هذه المتغيرات بدأت مع تفكيك الهيمنة الفقهية على بعض جوانب الحياة الاجتماعية، مثل العلاقة بين الدين والثقافة. كان هناك اتجاه واحد يوجه المجتمع نحو ما يريده الفقه، باعتباره سلطة غير قابلة للنقد أو المراجعة. لكن الخطوات التي تم اتخاذها كانت تهدف إلى إعادة موازنة العلاقة بين الدين والفن، حيث أصبح من الممكن التفريق بين الدين كقيمة روحية، والفن كأداة تعبير ثقافي.

السعودية لم تفرط في الدين لأنه يمثل الهوية الكبرى، لكنها أدركت الحاجة إلى تعزيز الفن والثقافة كجزء من التطور المجتمعي. لقد كان هذا التحول في فكر الدولة بمثابة محاولة لإيجاد توازن بين الحفاظ على القيم الدينية وبين فتح آفاق جديدة للتنمية الثقافية والفنية.

ومما يساعد على ذلك هو أن العالم بعد السنوات الأولى بدأ يتفهم الخريطة السياسية للسعودية. المملكة كانت تسعى إلى مد جسور العلاقات مع كل الاتجاهات، لأنها أرادت أن تكون قوة سياسية، اجتماعية، واقتصادية وليست قوة فقهية. وقد سمح ذلك لها بالمساهمة في مد جسور الثقافة مع الجميع، وحتى مع المخالفين في السياسة مثل إيران.

بمعنى آخر، العوامل الجديدة التي أدت إلى التحول كانت نتيجة الاختيار الأمثل للسلطة التي كانت تعرف ما تريده لبناء المجتمع. فالسعودية اتجهت نحو الانفتاح الاجتماعي، بدلاً من الانخراط في الحروب والصدامات، وهو ما أيدته السلطة بعد عقود من التبعية الفقهية التي جمدت الحياة الاجتماعية وأعاقت استثمار الرؤية الواضحة للمستقبل. ولا يمكن إغفال أن هناك دائمًا من يعترض أو يختلف في الرأي، لكن الحقيقة أن التحول كان ضرورة في سياق هذه المتغيرات. دون الالتفات الى كما يمكن ان يقال بالضد لان دائما هناك ما يقال

 


مشاهدات 84
الكاتب علي لفتة سعيد
أضيف 2025/07/15 - 4:16 PM
آخر تحديث 2025/07/16 - 9:45 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 295 الشهر 10051 الكلي 11163663
الوقت الآن
الأربعاء 2025/7/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير