الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
دماء النبوة على صعيد كربلاء

بواسطة azzaman

دماء النبوة على صعيد كربلاء

حسين الزيادي

 

في صمت الصحراء اللاهبة، لم تكن ارض كربلاء مجرد رمال وحصباء، بل كانت مذبحاً للقداسة، وقرباناً ينبض بالعشق الالهي، ونوراً يروي ظمأ الإنسانية، الأرض تتشرب من الدماءً الطاهرة التي لم تألفها منذ ذُبح يحيى بن زكريا، فلم تعد كربلاء مجرد ذكرى، بل جرح مفتوح في جبين الزمن، كلما حاول الطغاة دفنه انفجر الدمُ من تحت أديم الارض صارخاً: هيهات منا الذلة .. فإن كنتَ حراً.. فاذكر كربلاء، وإن كنتَ تبحث عن العدل.. فلتكن كربلاء دليلك وبرهانك.. وان كنت تطلب اليقين فهذا الحسين صراطُ الله المستقيم.. هنا عانق الحسين عليه السلام صعيد الطفوف، ووقف حفيد الرسول الاكرم، وبضعة الزهراء، ووارث النبوة، فريداً كالطود الشامخ، فارساً لا يضاهى ولا يجارى، يقاتل وحيداً بعد أن تساقط امامه أهل بيته وأصحابه كالنجوم الزاهرة، ينظر إلى جثث أولاده مقطوعة الرؤوس، يرى أخاه العباس ممزقاً بلا ذراعين والسهم ثابت في عينه، ويعاين ولده الأكبر جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله على جانبي جواده الذي كساه الدم الزكي حلة حمراء، يشاهد اجساد أصحابه مشتتة تلفحها رياح الهجير، وتحرقها اشعة الشمس التي تزداد شراسة، الأرض تتشقق ظمئاً، والسماء تمطر سهاماً وقسوة، تكالب الأعداء من كل حدب وصوب فأحاطوا بسليل النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل، فلم يُرى اربط جأشاً منه ولا أمضى جناناً ولا أشد إقداماً، وكان يشد عليهم بسيفه فينكشفون انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب وينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر،  واجه الحسين عليه السلام الموت بقلب مطمئن، وايمان ثابت،وعقيدة راسخة.. وقف فيهم خطيباً حاملاً ارثاً عظيماً من بلاغة القول، وفصاحة اللسان، وقوة التعبير، محشداً طائفة من التعبيرات القرآنية، ونصوص متنوعة من الشعر والأمثال، فظهرت تلك الإشارات بحسب مايقتضيه مقام الحديث وسياق الكلام، فقال في آخر خطبه له (الا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة .... ) وقف عليه السلام منادياً في الجموع: هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في أغاثتنا؟ فلم يجبه سوى ولده زين العابدين، فصاح الحسين (ع) بأخته زينب خذيه يا أختاه  لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد، الحسين يودّع عقائل النبوّة، ومخدّرات الرسالة، وودائع محمد صلّى الله عليه ، يوصيهنّ بالاستعداد للبلاء، وارتداء الازر والمقانع، فسألته السيدة زينب عن السبب، فقال: كأنّي أراكم عن قريب كالإماء، يسوقونكم أمام الرِكاب، ويسومونكم سوء العذاب، فلمّا سمعت ذلك بكت ونادت: وا وحدتاه ! وا قلة ناصراه ! ، ثم طلب منها ثوب عتيق لا يرغب فيه أحد، لئلاّ يجرّد منه، فإنه مقتول مسلوب، خرج الحسين وأخذت زينب بعنان الجواد، وأقبلت إليه، وقد جاء في التاريخ: أنّ الإمام عليه السّلام أوصى اُخته العقيلة قائلاً: يا اُختاه، لا تنسيني في نافلة الليل.

سهم مسموم

حمل عليه السلام على الأعداء كالليث المغضب، فلا يلحق أحدا إلاّ بعجه بسيفه، والسهام تأخذه من كل حدب وصوب، فيتقيها بنحره وصدره، حتى صار درعة كالقنفذ، ولما ضعف الامام عن القتال وقف هنيهة ليستريح، فبينما هو واقف اتاه حجر مشؤوم وقع في جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه، فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاثة شعب فوقع في صدره فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت رمى بدمه إلى السماء، ولطّخ بها رأسه ولحيته وقال: هكذا أكون حتى ألقي الله وجدّي رسول الله وأنا مخضب بدمي، واقول يا جد قتلني فلان وفلان، اخذ سلام الله عليه ينوء بنفسه المقدسة، ويكبو ويضطجع، ثم يقوم حتى أغميّ عليه وفرسه يحامي عنه ويتمرغ في دمه، ثم قصد خيام النساء وله صهيل عال ضارباً بيديه الأرض، لا ادري كيف تحملت الارض وطأة المأساة.

بينما الحسين جالس على الرمضاء يخرج من الخيام غلام في أذنيه قرطان يتذبذبان على خديه، يركض حتى جاء إلى حومة الميدان، وقد اهوى ابحر بن كعب إلى الحسين(ع) بسيفه ليضربه، فقال له الغلام: أتضرب عمي يا ابن الخبيثة، فعدل بضربته إلى الغلام فأصابت يده ،فأخذه عمه وضمه إليه و أجلسه في حجره، فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه، وانتهى الحال بالحسين أنه من كثرة نزف الدماء، ومن شدة العطش والظمأ، ومن حرارة الشمس ولفح الهجير وترادف المصائب والرزايا لم يكن يتمكن حتى من البقاء جالساً على الأرض فصنع له وسادة من الرمل و نام عليها.

  سبط الرسول الأعظم على صعيد الطف بجسد مزقته السهام ونصال السيوف، في لحظة توقف فيها الزمن، فلم يكن مجرد جسد بل صومعة للقداسة، العدو يحيط به كقطيع ذئاب متعطشة، شمر بن ذي الجوشن يركض نحوه كالكلب المسعور، يضع سيفه على المنحر الشريف، ليقطع غصناً من شجرة النبوة، ويثكل الزهراء بعزيزها، ليفصل الرأس الذي طالما سجد مخلصاً لله عن الجسد ، عمر بن سعد يرمي خيام الحسين بسهم ويقول (اشهدوا لي عند الامير اني اول من رمى) ، دم النبوة المقدس يسيل، الأعداء يتهافتون كالضباع يُقطّعون جسد ريحانة الرسول، كأنهم ينتقمون من ذكرى النبوة، يدوسون على صدره بخيولهم.. يريدون قتل الرسالة مرة أخرى،  كل ضربة سيف، كل طعنة رمح، كانت تخترق جسده الطاهر، سقط على الثرى الطاهر، شهيدا مظلوماً، مخضباً بدمه الذي اختلط برمال كربلاء، ليروي بذرة الثورة الأبدية ضد الظلم في مشهد امتحن فيه الضمير الإنساني.

  زينب بنت علي عليها السلام، سيدة العزاء وشاهدة المأساة، تراقب المعركة من بعيد وعيناها لا تفارق اخيها المحاصر ببحر من السيوف والاسنة.. ركضت نحو الحسين، انكبت على جسده المقدس، صرخت بصوت ابكى من حولها، لكنها لم تنكسر فهي ابنة الوحي، واخت الاوصياء، والخطيبة المفوهة التي زلزلت عروش الطغاة: (وامحمداه صلّى عليك ملائكة السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء وبناتك سبايا.. وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه. .. ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل)،  كل قطرة من ذلك الدم الزكي كانت  درساُ خالداُ يثبت للأجيال  أن الحق قد يُقتل جسديا، لكن روحه تنتصر أبد الدهر، دم الحسين عليه السلام لم يجف، ولن يجف، إنه ينبوع من العطاء ومشعلاً للثورة ضد الظلم والطغيان في كل زمان ومكان، وشعلة تتوهج تضيء درب كل حرّ يطلب الكرامة والعدل.

فجيعة كربلاء

لم تنطفأ شهوة الدم ولم يكتفوا بالقتل والتمثيل، فسارعوا لتسليب الجسد الطاهر متجاوزين بذلك كل حدود الإنسانية لتسجل فجيعة كربلاء نموذجاً بشعاً للتطرف الأموي، وانتهاكاً عميقاً  لقوانين الحرب واعرافها في التاريخ الإنساني، نعم سلبوا رداء الحسين وقميصه وعمامته ودرعه وسرواله وخاتمه وبرنسه ونعلاه وسيفه وقوسه، لكنهم لم يستطيعوا تجريد الحسين من هيبته وقدسيته وجلاله ووقاره، فكان التسليب مقدمة لوطء الجسد المقدس، إذ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين فيوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة، منهم: إسحاق بن حياة، وأخنس بن مرثد، فداسوا الحسين عليه السلام  بحوافر الخيول الأعوجية، وعندما استفهم ابن زياد عن هوياتهم قالوا: نحن الذين وطأنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا حناجر صدره، فأمر لهم بجائزةٍ يسيرة.

لم تكن معركة الطف مجرّد صدام عسكري؛ لقد كانت زلزالًا هز أركان الظالمين، وصرخة مدوية في وجه الفسقة والخانعين، ومسرحا لمأساة إنسانية بليغة في معانيها، عميقة في دلالاتها، ثرية في دروسها ومدلولاتها، سامية في مقاصدها، فائقة في مراميها، متوهجة في اشراقاتها، وملهمة في اضاءاتها، وكانت دماء السبط فداءً لكرامة الإنسان، ودرساً يصدح في جبهة التاريخ معلناُ ان الذل موت،  والحرية بقاء وخلود، لقد حمل الحسين عليه السلام، على عاتقه عبء الحقيقة في زمن انحرفت فيه بوصلة العدل، فكان رفضه لبيعة يزيد ضرورة إلهية لإنقاذ جوهر الإسلام، فخرج صلوات الله عليه من مكة، طامعاً في الإصلاح، مع ثلة من المؤمنين المخلصين الذين آثروا الموت على الحياة في ذل الطغيان، لكن قدر الشهادة كان ينتظرهم على تخوم كربلاء، جيش جرار، آلاف مؤلفة، حاصروا ذلك الركب الايماني ، قطعوا عنهم الماء، وفي هذا المشهد القاسي، برزت بطولة فذّة، وصرخة مدوية مازالت تهز عروش الظالمين، ووجه يشرق بالقداسة، ورماح غادرة تطعن قلب الاسلام النابض.

كربلاء ليست حدثًا تاريخياً يظهر حينا ويختفي حيناً آخر ، بل هي جرح نازف في جبين الإنسانية، ومدرسة للتضحية والفداء، وصرخة أبدية، وماتزال دماء الحسين المتقدة تضطرم في ضمير الزمن فتنير درب الثائرين، وتحرق صمت الخانعين ، وماتزال حرارة تلك الدماء تتفجر بركاناً في وجوه الطغاة، وتذيب جليد الخذلان، وعندما يحل شهر الحسين، تعود ذكرى الطف لتذكّر العالم بأن دماء الاتقياء التي سُفكت على رمال كربلاء المقدسة، ستظل شاهدًا أبدياً على بطولة تسبق الزمان، ومأثرة تسطع في الافق، وشجاعة تأبى التكرار، ودرساً خالدا في العزة والاباء.


مشاهدات 66
الكاتب حسين الزيادي
أضيف 2025/07/05 - 1:00 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 11:26 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 287 الشهر 2550 الكلي 11156162
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير