الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
غريب الدارِ

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

غريب الدارِ

ياس خضير البياتي  

 

نكتب عن الغربة… لأنها ليست فقط بعيدةً عن الوطن، بل بعيدةٌ عن كل ما كنّا نظنه بيتًا. ونكتب عن الوطن… لأنه رغم القسوة ما زال نبضًا لا يسكت في صدورنا. نكتب عنهما معًا… لأن الغربة تفضحنا حين نشتاق، والوطن يخذلنا حين نعود. فنمضي بين ذا وذاك، لاجئين إلى الكلمات… علّها تصبح لنا وطنًا لا يُغلق بابه.

ليست المسافات وحدها ما يُقصينا، فأحيانًا، يكفي أن تجلس في بيتك دون أن تعرفه، أن تمرّ بشوارع مدينتك فلا تسمع فيها صدى حنينك القديم، وأن تُطالع وجه أمك، ولا تملك يدًا تمسح حزنه... على وطنٍ تنتمي إليه، ولا يبادلك الانتماء.

عدتُ، فوجدت الوجوه باهتة، والقلوب مرتجفة، وما عادت الدار مأوى، بل صارت سجنًا ناعم الجدران، بارد الروح. الأهل أصبحوا أطيافًا تتحدث بلغة المصالح، وتنسى نُطق الوفاء. أن تمرّ بدارك ولا يُفتح الباب، أن تنادي باسم وطنك، فلا تجيبك الذاكرة. أن ترى أمك تذبل، لا لأن العمر أثقلها، بل لأن الأرض التي أحبّت... خذلتها.

في بلادي، رأيت نفاقًا متأصّلًا، كداءٍ عضالٍ يتفشى في شرايين العلاقات، فينطق الكذبَ بلسان الصدق، ويخفي الدنسَ خلف رداء الطهر المصطنع. وسمعت نميمةً كالسم الزعاف، تُقضم بها أعراض، وتُهتك بها أستار، لتخلّف خرابًا في النفوس، وروابط مهترئة تشبه شبكاتِ عنكبوتٍ هشّة.

وجدت ماديةً شرسة، تُحوّل البشرَ إلى أرقام في معادلة الربح والخسارة، تطمس الوجدان، وتجرّد الإنسان من قداسة وجوده. رأيت الكرامات تتمرّغ في وحل المذلّة، أمام بريق الزيف، وتخضع لأوهام القوة والسلطة الزائلة. رأيت الشهامة رمادًا تذروه رياح الأنانية، والكرامات تُذاب في قِدر الجشع.

رأيتُ الحرف يُحاكَم، والفكر يُقيد في غياهب النسيان، ورجال النور يُزاحون عن المنابر، ليقف مكانهم نجوم الضجيج والتفاهة. نكتب للوطن، فيُشكَّك في نوايانا. نحلم، فيُفتّشون أحلامنا. نصمت، فيُمتدَح صمتنا... لأنه لا يُزعج.

حضرت مؤتمرًا بعد عودتي، فصدمتني المفارقة القاسية: رموز الفكر والثقافة مهمَّشون في آخر القاعة، بينما يتصدَّر شابٌ بلا تجربة المشهد، محاطًا بالكاميرات والمسؤولين، كأن البذاءة صارت جوازًا للنجومية، بينما نُخبنا الثقافية منفيّة في صمتها… في الظل… في الإهمال.

في بلادي، الحقيقة تُربط إلى عمود الإهمال، والجهل يتسلّق المنابر. من يفكّر... يُحاصَر، ومن يُبدع... يُخوَّن، ومن يُحبّ... يُراقَب. يصافحك في الإعلام، ويتبرّأ من صوتك حين تكتب. يرفع الأناشيد عاليًا، ويخنقها حين تصدح بالصدق.

أخطر الأوطان تلك التي تُشبهك في الملامح… وتخونك في المعنى. تمنحك بطاقة الهوية… وتصادر هويتك. تُلقّنك أناشيد الانتماء… وتنسى أن تمنحك مقعدًا لتجلس فيه دون خوف.

الوطن الحقيقي؟ لا يُحاسبك على دمعتك… بل يمسحها. لا يستدعيك للتحقيق حين تكتب قصيدة، ولا يُصادرك حين تُحبّه بطريقتك.

الوطن ليس خرسانة ولا معمارًا متباهيًا، ولا مولًا مُزَجَّج الأرْوِقة، ولا مطعمًا فخم الصحون، ولا برجًا من إسمنتٍ يلوّح فوق سماء لا تعرف الدفء. الوطن… إنسان.

الوطن… أن يكون الإنسان هو الأولوية، لا المعمار. أن ترى طفلًا ينام دون خوف، وأن تسير في شارعك دون أن تتحسّس ظلّك، وأن تسمع جارك يقول «صباح الخير» وهو لا يحمل سيفًا خلف ابتسامته. أن تضمّك الأم بعين الحبّ… لا بعين المراقبة. أن تُمنح الكرامة… لا أن تُطالب بها. فلا تغرّنك الواجهات الفاخرة، إن لم يكن في الوطن من يسأل عنك… لا ما يُقال لك. فأفقر الأوطان من سكنت فيها ناطحات السحاب… ولم تسكن فيها قلوبٌ صادقة. الوطن مساحة لا تُرسم بالخرائط، بل تُزرع في القلوب. ليس الوطن جغرافيا تُرسم بخطوطٍ سياسية، بل دفءٌ يُرسم في ملامح الناس، وصوت أمانٍ يُنادى به حين يشتدّ الخوف، هو ذاك الذي إن نسيته... تذكّرك، وإن بكيت... مسح دمعتك، لا ساءلك عنها. أن يسكن الطلبة في مدارس عصريةٍ تفتح نوافذها للعلم لا للجهل، تُنبت في عقولهم أسئلة لا خنوعًا، وتزرع فيهم فكرًا لا تكرارًا، وفضولًا لا خوفًا. وأن يُعالج المريض في مستشفى يفيض بالعناية، لا يضجّ بالفئران، ولا يفقد الدواء، مستشفى يسأله عن ألمه… لا عن واسطته، يراه إنسانًا لا رقمًا، وحاجةً لا عبئًا. وأن يأكل المرء من غلّة يدي أخوته، لا من صدقة إذلال، ويشرب من كدّهم ماء الكرامة لا مرارة الانتظار. وأن يجد الشباب عملاً كريمًا في مزارع تُثمر خبزًا وشرفًا، وفي مصانع تُنتج الأمل لا الخُطب، وتصدّر الكرامة قبل البضائع، وتجعل من الإنتاج لغةَ انتماء، لا شعارَ إنجاز.

هكذا فقط، نُعيد للوطن اسمه. هكذا لا يعود غريبُ الدار… غريبًا. بل يصبح كل شارعٍ نافذة، وكل بابٍ احتمالًا، وكل لقاءٍ في الوطن… عناقًا لا يُحاسب عليه أحد.

آهٍ يا «يم داركم»... صدفةً أخذني الدرب إليكِ، فما بقيتِ دارًا، بل ذكرى باهتة تتردّد كأغنية شجيّة تنهش ذاكرة القلب همسًا، توقظ في الغياب وجعًا فوق وجع، وتغور كسهمٍ في صدر الحنين، تسكب على الفراغ حضورًا لا يُحتمل… كأنكِ لم تكوني مأوى، بل جرحًا لا يندمل فمن لم يجد في الدار دفء إنسان، عاش غريبًا حتى وإن عاد. لكن الغريب يبقى ابنًا للحب، ولو ناداه الخراب.

 

yaaas@hotmail.com


مشاهدات 22
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/06/29 - 3:05 PM
آخر تحديث 2025/06/30 - 1:18 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 110 الشهر 18470 الكلي 11153124
الوقت الآن
الإثنين 2025/6/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير