إيران تُغيّر قواعد الاشتباك وتعيد رسم مشهد المنطقة
طه حسن الأركوازي
في تطور لافت على مسرح الصراع بين إيران والكيان الصهيوني ، شهدت الساعات الماضية تصعيداً نوعياً وغير مسبوق ، تمثّل في أعتماد طهران تكتيك الضربات المركّزة والدقيقة والخاطفة ، التي أستهدفت مواقع حيوية داخل عمق الكيان ، في تحول واضح وجذري في قواعد الاشتباك الإقليمية.
أولاً : تكتيك الضربات المُركّزة – نهج جديد بكفاءة عالية ،وما يميز التصعيد الإيراني الأخير أنه لم يأتِ في إطار ردود تقليدية أو أستعراضية ، بل جاء مبنياً على تكتيك الضربة الدقيقة في الزمن المناسب ، بأستخدام رشقات صاروخية منسّقة أستهدفت عمق الكيان ، وألحقت به أضراراً أستراتيجية جسيمة .
أهم الضربات التي نُفّذت :
1. مقتل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ، وفقاً لتقارير نشرتها شبكة CNN ، في هجمات ما زال الكيان يلتزم الصمت الرسمي بشأنها .
2. قصف قاعدة “نيفاتيم” الجوية في النقب المحتل ، وإخراجها مؤقتاً من الخدمة ، وهي إحدى أهم القواعد التي تنطلق منها الطائرات الإسرائيلية لضرب سوريا ولبنان .
3. أستهداف محطة كهرباء حيفا ، التي تغذي الشمال الإسرائيلي مما تسبب في شلل شبه كامل .
4. ضربات مدمرة في تل أبيب ، أدت إلى أنهيارات وتفجيرات وتحويل بعض المناطق إلى ركام مشتعل .
وبحسب التقارير إن طهران أُطلقت ما لا يقل عن 80 صاروخاً بعيد المدى خلال 15 دقيقة ، أغلبها أخترق أنظمة الدفاع المتطورة مثل “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود”.
ثانياً : اتفاق الردع الجديد هل فرضت طهران شروطها ، ففي ضوء التسريبات التي نقلها المحلل الصهيوني “آموس هاريل”، فإن اتفاقاً غير معلن تم التوصل إليه بين طهران وتل أبيب ، ينص على عدم أستهداف المنشآت النووية من الطرفين .
وهذا الاتفاق إن صحّت التقارير لم يكن نتاج مفاوضات دبلوماسية ، بل فرضته طهران بقوة النار ، في إعلان غير مباشر عن :
أ• تراجع الردع الإسرائيلي .
ب• أنتقال إيران من موقع الدفاع إلى موقع فرض الشروط .
ج• أنكسار العقيدة الأمنية الصهيونية التي طالما تباهت بالهيمنة والسيطرة .
المفارقة أن هذا “الاتفاق النووي العسكري” لم تكتبه الدبلوماسية ، بل الصواريخ الدقيقة والضربات المُركزه التي جعلت من أستهداف مفاعل “ديمونا” مسألة وقت لولا الاستجابة الإسرائيلية السريعة بقبول الشروط .
ثالثاً : تآكل الردع الإسرائيلي هشاشة داخلية وتراجع ثقة المجتمع، فرغم تفوقه التسليحي إلا أن الكيان الصهيوني وجد نفسه أمام واقع جديد ، فالهجمات الأخيرة فضحت هشاشة جبهته الداخلية ، فقد أظهر أستطلاع لصحيفة يديعوت أحرونوت :
1• 62% من الإسرائيليين فقدوا الثقة بمنظومات الدفاع الجوي .
2• 44% من سكان تل أبيب يفكرون بالمغادرة المؤقتة .
3• أشار معهد دراسات الأمن القومي (INSS) إلى أن كلفة إعادة تأهيل قاعدة نيفاتيم قد تتجاوز 250 مليون دولار .
هذا التراجع المعنوي يُعتبر ضربة قاسية لهيبة الجيش الإسرائيلي داخلياً ، ولمنظومة الردع خارجياً .
رابعاً : سوق الطاقة في مرمى النيران إرتدادات إقليمية وعالمية .؟
لم تقف تداعيات الضربة الإيرانية عند حدود فلسطين المحتلة ، بل أمتدت إلى الأسواق العالمية، حيث سجلت:
1• أرتفاع أسعار النفط بنسبة 5.8% خلال يومين فقط .
2• قلق عالمي من أحتمال غلق مضيق هرمز الذي تمر عبره ثلث تجارة النفط العالمية .
3• خوف من توسع الضربات لتشمل منشآت نفطية خليجية في ( السعودية أو الإمارات ) .
4• أحتمالات أستهداف القواعد الأمريكية في المنطقة ، ومما قد يفتح باب الحرب الكبرى .
ووصفت وكالة بلومبيرغ هذا التصعيد بأنه “أخطر تهديد لسوق الطاقة منذ غزو أوكرانيا”.
خامساً : الممرات البحرية ردع غير مباشر وتكتيك أستراتيجي .؟
ألمحت إيران عبر الحرس الثوري إلى أن أي تصعيد ضدها سيقابل بما يلي :
1. أستهداف السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو الداعمة لها .
2. عرقلة الملاحة في مضيق باب المندب الذي تمر به يومياً 6 ملايين برميل نفط .
3. تصعيد عمليات الحوثيين في البحر الأحمر بدعم أستخباراتي ولوجستي إيراني مباشر .
هذا التحول في قواعد الردع البحري ، يضع الأسطول الأميركي الخامس في البحرين أمام معادلة صعبة : فإما التوسع الميداني .؟
أو المخاطرة بصِدام قد يتدحرج إلى مواجهة مفتوحة .؟
سادساً : العراق والمنطقة ساحات مفتوحة على حافة الانفجار ، ففي ظل هذا التصعيد ، يبقى العراق الأكثر عرضة للتورط القسري نتيجة :
1• ضعف القرار السيادي وتعدد مراكز النفوذ.
2• أستغلال أراضيه في عمليات أستخبارية ولوجستية بين الأطراف المتصارعة .
3• هشاشة الحدود الشرقية والغربية ، ما يجعله ساحة مفتوحة لأي أختراق ، ويفرض ذلك على بغداد :
1• إعادة تقييم التموضع الأمني .
2• إعادة ضبط العلاقة مع إيران وأميركا على أسس الحفاظ على السيادة لا المجاملة السياسية .
3• تجنيب البلاد الانجرار إلى حروب لا ناقة له فيها ولا جمل .
سابعاً : ما بعد الضربة من يملك القرار في شرق مشتعل؟
الشرق الأوسط لم يعد كما كان ، فإيران أثبتت أنها قوة ردع صاروخية وليست مجرد لاعب سياسي ، فيما الكيان الصهيوني يواجه واقعاً جديداً :
1• لم يعد الطرف الذي يفرض الردع ، بل الطرف الذي يُرغَم على التفاوض .
2• لم تعد ديمونا “خطًا أحمر”، بل هدفاً مُحتملاً قابلاً للتدمير إن لم تلتزم تل أبيب بخطوط طهران .
أما العراق ، فإما أن يكون رقماً في معادلة الأمن الإقليمي عبر قرارات سيادية .؟
أو رهينةً بيد الأطراف الإقليمية التي تتصارع على أرضه دون إذنه .؟
أخيراً .. الصواريخ الأيرانية تُعيد ترسيم المشهد .؟
إن الرسائل في الشرق الأوسط الجديد لم تعد تُكتب بالبيانات ، بل بالصواريخ والطائرات المسيّرة ، ومن لا يقرأ التحولات الاستراتيجية بدقة ، فلن يكون لاعباً بل ضحية .
لقد نجحت إيران ، ولو مؤقتاً في كسر حاجز الردع الإسرائيلي التقليدي ، وفرضت معادلة جديدة على الجميع : من البحر إلى البر ، ومن الطاقة إلى السياسة ، وإذا لم تبادر الدول المتأثرة وعلى رأسها العراق إلى إعادة التموضع وبناء سياسات سيادية واقعية ، فإنها ستُدفع إلى صراعات لا تملك قرار الدخول فيها ولا الخروج منها …!
*خبير بالشأن السياسي والأمني