تأملات في مفهوم الحرية من منظور فكري
رباب النويري
التحرر من كل شيء، بما في ذلك الماضي والمستقبل وحتى الحاضر، من الأفكار المقلقة، ومن التعلّق المرَضي بالأشخاص، بالأحلام، وبالأشياء الزائلة؛ ليس أمرًا يسيرًا كما يتخيل البعض، بل هو معركة خفية، تحتاج إلى مراجعة ذاتية دورية، وإلى يقظة صارمة، وفهم عميق لجذور النفس البشرية، تلك النفس التي إن لم نُخضعها للفهم والتهذيب، ستتحول إلى عدو خفي لا يُرى،
نعيش اليوم وسط فوضى أخلاقية وضعف نفسي يعصف بالعالم أجمع، وتُضعفنا أمام رغباتنا المُلحة، فتُحكم قبضتها علينا وتقيدنا ، كيف يمكن للمرء أن يتحرر من كل شيء، وهو لا يزال اسير لشهواته، مقيد بعقله القلق، وعاطفته المشوشة؟ كيف نتحرر من أنفسنا ، بينما نحن غارقون برغباتها الآثمة؟
لابد للإنسان أن يُدرك أن الحرية الحقيقية ليست طلبًا عابرًا أو مجرد شعارًا يُرفع، بل فكرة مقدّسة، قاتلت من أجلها البشرية منذ فجر الحضارات، وبذلت الأرواح لأجلها، بدءًا من سقراط حتى غاندي، ومن الزهد الصوفي حتى الثورات الروحية والفكرية، والحرية لا تبدأ من الشارع أو الجسد أو النظام السياسي ، بل من داخل النفس، من مكاشفة صادقة بينك وبين ذاتك،
فما معنى أن تطالب بحرية التعبير، وأنت لا تستطيع أن تصمت ساعة في وجه رغبة تُهينك؟ ما معنى أن تهتف بحرية الجسد، وأنت مُستعبد له، تدور في فلك لذّاته؟
يجب تعلم إن تركك للعبادة لا يُعد تحررًا من العبودية الإلهية، بل هو استبدال بعبودية أخرى أشد قسوة، وشربك للخمر، أو ممارستك للمحظورات، ليس تمردًا على الدين، بل هو رضوخ لما هو أدنى، والتجرد من الأخلاقيات لا يعني رفضًا للعادات والتقاليد،
ما أنتَ إلا عبد لرغباتك، حين تظن أنك حر لأنك فعلت ما اشتهيت، فممارسة الجنس دون رابط روحي، ليست حرية، بل بهيمية ، والإنسان الذي يُسقط أخلاقه، يسقط تباعًا فكرُه ورأيه ومعناه، يتحوّل إلى جسد يتغذى ويتكاثر وينام، بلا وعي، بلا قيمة، ككائن حيواني مشروط باللذّة،
أليس من التناقض أن نطالب بتحررٍ سياسيّ أو اجتماعيّ، في حين نُقيم في أنفسنا السجون الأشد؟ كيف لنا أن نُحرر الجسد، والعقل مثقل بقيود الجهل والتشتت؟ كيف نرتجي حرية حقيقية، ونحن لا نملك زمام ذواتنا؟
التحرر، في جوهره، ليس ضد الدين ولا الأخلاق، بل هو ولادة جديدة للعقل حين يتطهّر من زيف المفاهيم، ف الدين ليس تعصّبًا، كما أن التحرر لا يعني التسيّب، لا حرية بلا فكر، ولا فكر بلا وعي، ولا وعي بلا تهذيب داخلي،
إن الذات التي لم تُراقَب، ولم تُفهم، ولم تُربَّ، تتحوّل إلى دابة ، ولهذا، فإن أول حدود التحرر، هي أن تضع حدودًا لنفسك
افهم نفسك... راقبها، تأمل رغباتها، قاوم ما يُبهجك إذا كان يقتلك، واسمُ بنفسك عن كل ما يُحطّ من إنسانيتك
فالحرية ليست إسقاطًا للثقل، بل القدرة على حمله دون أن يسحقك
وكما قال افلاطون: الحرية الحقيقية هي سيادة العقل على الرغبة.