تهنئة من القلب
سمير اليوسف
في حضرة الشعر، حيث تذوب الحروف لتتشكل روحًا تمشي بين الناس، يحقّ لنا أن نبارك لشاعرٍ ليس مجرد كاتبٍ للقصيدة، بل هو واحد من صُنّاعها الكبار، من أولئك الذين أخرجوا اللغة من حدود البلاغة إلى فضاءات الرؤيا، وأعادوا للمجاز مكانته بوصفه شكلاً من أشكال الحقيقة. نبارك للشاعر حميد سعيد نيله جائزة العويس للشعر، لا بوصفها تتويجًا لمسيرته، بل بوصفها شهادة من الزمن أن الشعر، حين يُكتب بروح يقظة وعقل متأمل، يظل قادرًا على أن يترك أثرًا في خرائط الوعي العربي.
حميد سعيد، الذي عرف كيف يصغي لصوت القصيدة وهي تتشكّل من رماد التاريخ ووجع المنفى، لم يكن يومًا شاعرًا عابرًا في زمن مزدحم بالأصوات، بل ظلّ على مدى عقود أحد أولئك القلائل الذين جعلوا من الشعر موقفًا ومن اللغة موطنًا. لقد كتب العراق كما لم يُكتب، لا بوصفه جغرافيا، بل بوصفه ذاكرة ورؤيا، وطنًا يسكن في الحروف أكثر مما يسكن على الخرائط.
إن من يقرأ حميد سعيد، لا يقرأ نصًا فحسب، بل يدخل تجربة وجودية، حيث تتلاقى الفكرة بالفن، والمأساة بالجمال، والغياب بالحضور. شعره ليس مجرد نحت لغوي، بل بحثٌ دؤوب عن جوهر الإنسان في ظلّ عالم تتناقص فيه المعاني. إنه شاعر يفكك اللغة ليعيد بناءها، ويهدم الصورة ليصنع منها أفقًا جديدًا للدهشة.
جائزة العويس، حين اختارته، إنما كانت تستعيد به المعنى النبيل للجائزة: أن تُمنح لمن أعطى، لا لمن انتظر؛ لمن ظلّ مخلصًا لجوهر الشعر، لا لمن استسلم لبهرجه. وما أجمل أن تبلغ الجائزة شاعرًا لم يكن ينتظرها، لأنه كان مشغولًا بما هو أعمق: كتابة ما يبقى.باسم محبي الشعر، وباسم الذين ما زالوا يؤمنون أن القصيدة يمكن أن تكون خلاصًا، أهنئ الشاعر الكبير حميد سعيد، لا على جائزة نالها، بل على رحلة طويلة ظلّ فيها وفيًا لصوته، صامتًا حين يكون الصمت لغة، ومتفجرًا حين تستدعي اللحظة قصيدتها الحاسمة.
دمت للشعر… ودام الشعر بك.