من لم يُحبّ لم يعرف الـله
نوري جاسم
في زمنٍ ازدحمت فيه الأجساد بالتعب، وانشغلت العيون بالمظاهر، وغابت القلوب عن مقاصدها، ينهض التصوف الكسنزاني القادري الأصيل والحق كالنور في ليلٍ حالك، يوقظ فينا السؤال الكبير: لماذا وُجدنا؟
وفي جواب العارفين، من سلكوا درب العشق الإلهي، حيث يقولون: «وُجدنا لنعرف ونحبّ... ومن لم يُحبّ، لم يعرف الله.» فالطريق إلى الله ليس كتابًا يُحفظ، ولا طقسًا يُمارس، بل هو نور يسكن القلب، وعشق يتسلّل إلى كل ذرّة في الكيان، حتى تصبح المحبة لك خلقًا، وملاذًا، ورسالة، والشيخ العارف بالله، سلطان العارفين، الشيخ محمد المحمد الكسنزان الحسيني، قدس الله سره، لم يكن شيخ طريقة فحسب، بل كان قلبًا واسعًا، يحمل همّ كل ألناس، ويعلّم بخُلقه قبل كلمته، أن التصوف ليس إنزواء، بل انفتاح. ليس خلوة هروب، بل خلوة إدراك. ليس نفورًا من الناس، بل اندماجًا معهم بمحبة أكبر، وكان يقول لأحبابه: «إذا رأيت الله في قلب أخيك، فأنت في الطريق... وإذا رأيت الله في قلب عدوّك، فقد وصلت.» والتصوف الكسنزاني لم يكن يومًا ترفًا روحيًا، بل كان ولا يزال ثورة محبة. ثورة على الجهل، على الكراهية، على التفرقة، وفي مجلس الكسنزان، لا يُسأل المرء عن مذهبه، ولا قوميته، ولا لغته، بل يُسأل: «هل قلبك حي؟
هل فيك بقية محبة؟» ومن كانت فيه بقية محبة، فقد سلك أول الطريق، ونحن لا نعلّم الناس كيف يحبّون الله فقط، بل نعلّمهم أن يروا الله في الناس، في وجوه الفقراء، في دموع المساكين، في صمت الحزانى، في ضحكة طفل لا يعرف الحقد بعد، ومن لم يرَ الله في الناس، فقد ضلّ الطريق إليه، وكما قيل في الأثر الصوفي «ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن حبًا فيك، يا من إذا عرفناه أحببناه، وإذا أحببناه، عرفناه، الكسنزانية ليست فقط طريقة، إنها مدرسة تربية قلبية، تعيد للإنسان إنسانيته، وتعيد للمجتمع سلامه، وتعيد لله عباده بالحبّ، لا بالخوف، وهذا هو سرّها، ولهذا انتشرت حيثما كان هناك قلب يبحث، ونفس تشتاق، وروح تتوق للنور، لا تُحارب الكراهية بالكراهية، بل بالحبّ، ولا يُهزم التطرف بالعنف، بل بالتربية الصوفية التي تعلّم الإنسان أن يتطهّر من داخله، ويعود إلى فطرته الأولى: فطرة الحب، ويقول السيد الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان القادري الحسيني حفظه الله «نحن لسنا ضدّ أحد، بل مع الجميع... رسالتنا: أن يحبّ الإنسانُ الإنسانَ، لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه.» في قلب كل إنسان، بذرة نور، سقتها دمعة، أو ذكرى، أو لمسة صدق من شيخ صادق، ازرعها، لا تخف، فالعالم بحاجة لقلوب تُحب، لا لعقول تُجادل، بحاجة لسلامٍ يُولد من المحبة، لا لسلامٍ يُفرض بالقوة، وفي النهاية، لا تسأل «ماذا أفعل؟» بل اسأل «كم في قلبي من حب؟
» فإن وُجد، وُجد الله، وإن غاب، فابكِ على قلبك، واستغفر لحياتك، وابدأ من جديد... فمن لم يُحبّ، لم يعرف الله، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .