جيل 99.7 بالمئة بلا وظيفة.. مأساة تعليم لا يرى إلا الإختبار
أسامة أبو شعير
خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية والتنمية
في عصر تتسارع فيه التحولات وتنهار فيه الحدود بين المهن والمعارف، يُصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: هل تُعدّ أنظمتنا التعليمية أبناءها للعالم كما هو، أم لعالم انتهى منذ عقود؟ يبدو أن التعليم في العراق، بكل مراحله، قد وقع في فخ “التدريس من أجل الاختبار” Teaching to the Test، وهو نهج لا يُخرّج مبدعين بل مكررين، ولا يُنتج مشاريع بل شهادات. وفي بلد يرزح تحت أزمة بطالة لخريجي الجامعات، نحتاج اليوم إلى مواجهة هذا النموذج القائم على الامتحان، لا على الإمكان.
في بلد يُعدّ فيه دخول كلية الطب لا يقل صعوبة عن الفوز في يانصيب، وتُطلب له معدلات تفوق 99.7بالمئة تتكشّف مفارقة محزنة: النظام التعليمي يطالب بالكمال… لكنه لا يقدّم مستقبلاً. هذه النسبة، التي تُعتبر حلم آلاف الطلبة وأُسرهم، تحولت إلى رمز لجيل متفوّق على الورق… غائب عن سوق العمل.
من التعليم إلى التلقين: أين ضاعت الوظيفة المعرفية للتعليم؟
منذ تسعينيات القرن الماضي، حذّر باحثون عالميون من أثر “التدريس للاختبار” على البيئة التعليمية، إذ يُختزل المنهج إلى تدريبات متكررة على أنماط أسئلة، ويُختزل المعلم إلى “مدرب على الإجابة”، ويتحول الطالب إلى “مستودع للحلول النموذجية”. لكن دراسة حديثة أجراها الباحثان جوِي موث وماركو لوفْتِنِغَر (2025) قدمت نتائج غير متوقعة: زيادة هذا النوع من التدريس قبل الامتحانات لا تقتل بالضرورة دافعية الطلاب، بل قد تعزز جوانب منها إذا تم بطريقة معتدلة وذكية، وضمن بيئة تعليمية مرنة.
نظرية التوقع
الدراسة التي اعتمدت على ما يُعرف بـ”نظرية التوقع والقيمة الظرفية” (SEVT) وجدت أن الطلاب الذين شعروا بزيادة “TTT” في عامهم الأخير بالمرحلة الثانوية، أظهروا في بعض الحالات تحسنًا في دافعيتهم الداخلية وإدراكهم لفائدة المادة وأهميتها. هذه النتائج، رغم جدتها، لا يمكن تفسيرها بمعزل عن السياق.
الفرق بين النمسا والعراق… حين يصبح السياق هو الرسالة
الدراسة أُجريت في النمسا، داخل نظام تعليمي مرن، متنوع، يتيح للطالب فرصًا لبناء شخصيته وقدراته التحليلية منذ الصفوف الأولى. الامتحانات هناك ليست غاية، بل وسيلة ضمن مسار تعليمي أوسع يتضمن مشاريع، حوارات، تعلم تعاوني، ونشاطات حقيقية مرتبطة بالحياة.
أما في العراق، فالنظام التعليمي مُصمم على أساس الامتحان. كل شيء يدور حول “النجاح في الورقة”. الطالب العراقي، منذ مراحله الابتدائية، يتلقى تعليمًا قائماً على التلقين، يُمنع فيه من الخطأ، ويُكافَأ فقط على الحفظ. وعندما يصل إلى الصف السادس الإعدادي، لا تزداد فقط جرعة TTT، بل يبلغ الضغط ذروته: أسر، مدارس، مجتمع، إعلام… الكل يتعامل مع الامتحان كمعركة مصيرية.
النتيجة؟ في النمسا، TTT يأتي بعد تجربة تعليمية ثرية، فيخدم الطالب. أما في العراق، فهو النظام نفسه، فيخنق الطالب. لذا لا يمكن استخدام نتائج الدراسة كمبرر لتكريس ثقافة الاختبار، بل على العكس، يجب أن تدفعنا لطرح السؤال الأهم: كيف نُعيد هندسة النظام بحيث يكون الإنسان، لا الورقة، هو محور العملية التعليمية؟
السادس الإعدادي: مأساة وطنية في ثوب أكاديمي
امتحان السادس الإعدادي في العراق تجاوز وظيفته التقييمية، وأصبح أداة لإعادة إنتاج اللامساواة. تُخصص له ميزانيات خاصة، ودروس خصوصية منهكة، وضغط اجتماعي هائل. لكن ماذا بعد؟ معدل 99.7 بالمئة قد يؤهلك لدخول كلية الطب، لكن لا يضمن لك وظيفة. بلغة الاقتصاد: النظام ينتج شهادات، لا كفاءات.
هذا يعني أن جيل 99.7 بالمئة لا يعاني فقط من تناقض بين التفوق والبطالة، بل من خيبة أمل عميقة: كيف يمكن لنظام يكافئ الامتياز أن يعجز عن تأمين المستقبل؟ وكيف يصبح الامتحان، لا المهارة، هو الجواز الوحيد نحو ما يُفترض أنه نجاح؟
والأدهى، أن التخصصات التي تُعتبر “ذهبية” كالهندسة والعلوم والطب، لا تجد طريقها إلى الاقتصاد الحقيقي، في بلد يعاني من ضعف في البنية الصناعية، وغياب لثقافة البحث والتطوير، وندرة في بيئة الأعمال المستقلة. في المقابل، يندر وجود خريجين لديهم قدرة على ابتكار مشروع، أو خلق منتج، أو حتى قيادة فريق.
الجامعات: إعادة إنتاج الأزمة بدل حلها
تبدأ الجامعات من حيث انتهى السادس الإعدادي، إذ تُستنسخ فيها نفس الآليات: محاضرات نظرية، امتحانات مغلقة، غياب المشاريع، ومخرجات مفصولة عن واقع السوق. قليلون هم الأساتذة الذين يشجعون الطلبة على التفكير النقدي أو تقديم منتج تطبيقي. بل تُعدّ “المرونة” أو “التجديد” غالبًا خطرًا، لا فضيلة.
ومع ذلك، ظهرت بوادر إصلاح محدودة لكنها واعدة:
• بعض الجامعات العراقية بدأت باعتماد مقابلات شخصية واختبارات إضافية كجزء من معايير القبول، خصوصًا في تخصصات طبية وتقنية حساسة.
• عدد من المدارس المتميزة والخاصة بدأ بإدخال مشاريع في مجالات الروبوتات والريادة، تمنح الطلبة فرصة لتطبيق المهارات، ولكن ما تزال هذه المبادرات محصورة في بيئات نُخبوية ومحدودة جغرافيًا وتمويليًا.هذا يعني أن بذور التغيير موجودة، لكنها تحتاج إلى رعاية ممنهجة واستراتيجية واضحة لتتحول من “استثناءات تجريبية” إلى “مسار وطني”.
المهارات التي يتطلبها العالم… ولا يدرّسها النظام
تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2025 يؤكد أن المهارات التي ستحدد مستقبل العمل لا علاقة لها بالذاكرة أو الاسترجاع، بل تشمل: التفكير التحليلي، الإبداع، التعاون، الذكاء العاطفي، التعلم الذاتي، وحل المشكلات. هذه المهارات لا تُقاس في امتحانات العراق، ولا تُمنح لها مساحة داخل الصفوف.
نحن، باختصار، نُدرّس طلابنا كيف ينجحون في امتحان… لا في الحياة.
من النقد إلى خارطة طريق: كيف نبدأ من الآن؟
لا يكفي أن نُشخّص الخلل، بل يجب أن نُحفّز التفكير العملي لدى صنّاع القرار، لرسم خطوات واضحة تُفكك حلقة التلقين والامتحان المغلق. ومن الممكن لصاحب القرار أن يضع خارطة طريق بثلاث مراحل:
أولاً: إصلاح قصير المدى (1-3 سنوات)
• تحسين بنية امتحان السادس الإعدادي عبر إدراج أسئلة تطبيقية ومفتوحة تُقيس الفهم والتحليل.
• تدريب المعلمين على التقييم البديل: مثل المشاريع والعروض التقديمية، ولو بشكل اختياري في البداية.
• تشجيع المدارس المتميزة على نشر نماذجها من خلال حوافز حكومية وتعاون مع القطاع الخاص.
ثانيًا: إصلاح متوسط المدى (3-7 سنوات)
• إقرار نظام قبول جامعي متعدد المعايير يشمل المعدل، والمقابلات، واختبارات القدرات الشخصية.
• دمج وحدات ريادة الأعمال والابتكار داخل جميع التخصصات الجامعية.
• توسيع التعليم المهني والتقني بتمويل حكومي وشراكات دولية.
ثالثًا: إصلاح طويل المدى (8-15 سنة)
• إعادة هيكلة المنظومة التعليمية على أسس المهارات والحياة لا المعلومات فقط.
• إدخال مشاريع التخرج في المراحل الثانوية كبديل عن الامتحانات التقليدية.
• تحويل التعليم إلى مشروع وطني للنهضة الاقتصادية والاجتماعية، لا مجرد قطاع خدمي.
خاتمة
العراق لا يحتاج مزيداً من الحفظة… بل من الحالمين
جيل “الإجابة الصحيحة” هو نتاج نظام يخاف من السؤال، ويعاقب الخطأ، ويقدّس الورقة. لكن العراق الذي يتطلع إلى اقتصاد متنوع، ومكانة إقليمية، وابتكار معرفي، لن ينهض من قاعة امتحان، بل من صف يتعلم فيه الطالب كيف يصنع حلاً، لا كيف يختار “أ” أو “ب”.
جيل 99.7 بالمئة بلا وظيفة ليس نكتة سوداء، بل مرآة مشروخة لنظام يقيّم العقل بالدرجات، لا بالإبداع، ويختزل المستقبل في ورقة اختبار لا تتجاوز ثلاث ساعات.
في هذا النظام، لا مكان للمحاولة، ولا مكافأة على الخطأ، ولا اعتبار لقيمة التجربة.
آن الأوان أن نمنح أبناءنا حق التفكير، حق المحاولة، وحق الفشل. لأن المجتمعات الناجحة لا تُقاس بمعدلات قبولها الجامعي… بل بقدرتها على تحويل الفكر إلى قيمة، والتعليم إلى ثروة. لا كيف يختار “أ” أو “ب”.
جيل 99.7 بالمئة بلا وظيفة ليس نكتة سوداء، بل مرآة مشروخة لنظام يقيّم العقل بالدرجات، لا بالإبداع، ويختزل المستقبل في ورقة اختبار لا تتجاوز ثلاث ساعات. في هذا النظام، لا مكان للمحاولة، ولا مكافأة على الخطأ، ولا اعتبار لقيمة التجربة.
آن الأوان أن نمنح أبناءنا حق التفكير، حق المحاولة، وحق الفشل. لأن المجتمعات الناجحة لا تُقاس بمعدلات قبولها الجامعي… بل بقدرتها على تحويل الفكر إلى قيمة، والتعليم إلى ثروة.
كيف يختار “أ” أو “ب”.
جيل 99.7 بالمئة بلا وظيفة ليس نكتة سوداء، بل مرآة مشروخة لنظام يقيّم العقل بالدرجات، لا بالإبداع، ويختزل المستقبل في ورقة اختبار لا تتجاوز ثلاث ساعات. في هذا النظام، لا مكان للمحاولة، ولا مكافأة على الخطأ، ولا اعتبار لقيمة التجربة.
آن الأوان أن نمنح أبناءنا حق التفكير، حق المحاولة، وحق الفشل. لأن المجتمعات الناجحة لا تُقاس بمعدلات قبولها الجامعي… بل بقدرتها على تحويل الفكر إلى قيمة، والتعليم إلى ثروة