حين يصبح الإخلاص خسارة صامتة
وفاء الفتلاوي
في مشهد يتكرر بصمت داخل الكثير من البيئات، هناك من يقرر أن يخلع رداء أنانيته، ليرتدي عباءة الإخلاص المطلق. يراهن على الوفاء، ويجعل من حلم الجماعة أهم من حلمه الشخصي، فيضحي بوقته، براحته، بأجمل سنين عمره، بل وحتى بأحلامه التي لطالما خبأها في قلبه.ذلك الإنسان الذي كان يمكن أن يختار الطريق السهل، لكنه اختار الصعب لأنه لم يُرد أن يُخلف بوعده، ولا أن يتخلى عن رفاق شاركهم الزاد والبدايات. قاتل كثيراً، لا من أجل نفسه، بل من أجل أن لا تُهدم جدران تعب الآخرين. ومع كل خطوة، كان يبتعد عن أحلامه دون أن يشعر.ومع مرور الوقت، يجد نفسه في نهاية السباق، لا يحمل من الرحلة سوى التعب، والخذلان، والنكران. لا أحد تذكر ما فعله، ولا أحد أعاد له لحظة مما خسر. تحققت أهداف الجميع، إلا هو. ارتفعت أسماء كثيرة على أكتافه، لكنه بقي في الظل، يصافح اللاشيء.والأصعب من كل هذا، أن مكافأته الوحيدة كانت التهميش، بل وربما الإساءة، والتشكيك بما قدّمه. كأنما الإخلاص في زمن المصلحة أصبح خطيئة لا تغتفر.
لكن وسط هذا كله، يجب أن يُقال بصدق: إن هذا الإنسان أخطأ في حق نفسه حين ظن أن العطاء بلا حدود لا يترك ندوباً، وأخطأ حين صدّق أن النية وحدها تكفي لبناء جدار من التقدير، واعتقد أن مرور سنوات العطاء سيجعل الآخرين يتجاوزون زلاته، رغم أنهم في كثير من الأحيان أكثر خطأً منه ويحملون أوزارهم بصمت.فلا أحد منا معصوم، ولسنا أنبياء، والخطأ في جوهره جزء من إنسانيتنا وعاطفتنا، والاعتراف به فضيلة لا تُنقص من قيمة الإنسان بل ترفعها، لا سيما حين يتمسك صاحبها بكتاب الله العزيز والعروة الوثقى التي لا انفصام لها.وقد فتح الله أبواب التوبة والغفران للجميع، وقال في كتابه العزيز: “إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”، وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”.فإذا كان الله قد غفر ورضي وتاب، فليس من حق أي بشر أن يُخطئ من سمح الله، ولا أن يُصادر قيمة إنسانية أحد، أو يُنكر سعيه وجهده، حتى وإن تعثر الطريق.ومع ذلك، لا يعطي هذا الخطأ الحق لأي شخص أن يُقيم جهدك بالنكران، أو أن يختزل سنوات تعبك بكلمة عابرة أو حكمٍ مجحف؛ لأن ما يبذل من القلب يظل شاهداً عليك لا عليهم، والذين لا يرون الضوء او ينكرونه لا يعني أن الضوء لم يكن موجوداً.ربما يكون الجواب في الإيمان بأن ما نفعله من خير لا يضيع حتى لو خانه القريب وتجاهله البعيد وإن تأخرت العدالة فهي آتية يوماً ما.