في عُمان.. مفاوضات الضرورة لا الرغبة
محمد علي الحيدري
اليوم السبت ، تلتقي واشنطن وطهران مجددًا في مسقط، المدينة التي حافظت على طابعها السريالي كوسيط لا يتحوّل. لكنها هذه المرة ليست مجرد جولة أخرى من الدبلوماسية الباردة، بل مفاوضة تُجرى في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو الذي انسحب بنفسه من الاتفاق النووي في 2018، وضرب بتركة أوباما عرض الحائط، وقاد سياسة “الضغط الأقصى” على طهران. الآن، ها هو يعود، لا لينقض الاتفاق، بل ليفتح باب التفاوض من موقع “القوة المستعادة”.
طهران من جهتها لا تدخل إلى مسقط مرفوعة الرأس، لكنها أيضًا لا تزحف. إنها تدخل بثقل ميداني إقليمي راكمته في السنوات الماضية، بيدٍ تقاتل في غزة والجنوب اللبناني، وبأخرى تحرس البرنامج النووي على عتبة الاقتدار الكامل. لعل إيران تدرك أنها لا تفاوض رئيسًا ديمقراطيًا يسعى للإنجاز، بل رئيسًا جمهوريًا يُجيد استخدام التهديد كأداة تفاوض. ورغم ذلك، فإنها قبلت الجلوس، لأنها – ببساطة – لا تملك رفاهية الاستمرار في النزف الاقتصادي والسياسي إلى ما لا نهاية.
أميركا ترامب لا تأتي إلى مسقط بوهم تغيير النظام، كما فعلت نخب البنتاغون في لحظة الغرور السابق، لكنها تسعى لترتيب معادلة أمنية توقف التصعيد في الخليج والبحر الأحمر، وتمنح إسرائيل متنفسًا في حربها الطويلة. ومن هنا، فإن المفاوضات – وإن سُمّيت “تقنية” أو “استكشافية” – تحمل مضمونًا استراتيجيًا: تثبيت خطوط التماس لا على الأرض فحسب، بل في المشروع النووي نفسه.
فرصة استثمارية
لكن ترامب هو ترامب. يفاوض كما يُدير صفقة عقار، لا كمن يبني نظامًا دوليًا. وهو في ذلك لا يرى إيران كدولة عدوة فقط، بل كفرصة استثمارية مجمّدة. في تصريح له عام 2023 – لم يُسلّط عليه الضوء كثيرًا – قال في تجمّع بفلوريدا:
“إذا أرادت إيران أن تُصبح كوريا الجنوبية لا كوريا الشمالية، فعليها أن تعرف من تكلّم.”
جملة تُلخّص فلسفته: كل شيء قابل للمقايضة، بشرط أن يعرف الطرف الآخر مَن الأقوى.
لكن إيران، بطبعها وتاريخها السياسي، لا تعطي انحناءً مجانياً. هي تفاوض لشراء الوقت، ولتحسين شروط المعركة القادمة، لا لتسليم أوراقها. وهي لا تزال تذكّر العالم بأن مقتل قاسم سليماني لم يُنهِ مشروعها، بل زاده تغلغلاً. وفي الوقت نفسه، تعرف أن لا مصلحة لها في مواجهة مفتوحة مع واشنطن تحت حكم ترامب، الذي لا يتردد في استخدام القوة إذا اعتقد أنها ستمنحه مشهدًا بطوليًا على منصات التلفاز.
المفارقة أن هذه الجولة من التفاوض تُجريها إيران وهي أكثر تأثيرًا في الإقليم من أي وقت مضى، لكن أقل قدرة على تحويل ذلك إلى مكاسب اقتصادية. وتُجريها أميركا وهي أكثر انكفاءً استراتيجيًا من أي وقت، لكنها لا تزال تمسك بمفاتيح المال والعقاب. مفاوضات مسقط، بهذا المعنى، ليست بداية اتفاق، بل إدارة أزمة مفتوحة، وفق معادلة قديمة:
“لا سلام شامل، ولا حرب شاملة، بل اتفاقات على هامش الانفجار.”
وهنا نذكّر بما قاله الإمام علي في واحدة من حكمه البالغة:
“من ضاق صدره عن كتمان سره، لم يسعَ صدرُ غيره لحمله.”
وكأنها نصيحة تُوجه إلى الوفدين: لا تكشفوا أوراقكم دفعة واحدة، فالجولة طويلة، والرقعة شائكة، والهواء في مسقط خفيف… لكنه لا يغفر الأخطاء.
هل تسفر هذه الجولة عن صفقة؟ ربما لا. لكنها – قطعًا – ترسم حدود الصفقة الممكنة.