الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة في المشروع الإعلامي للأستاذ سعد البزاز

بواسطة azzaman

إعلام يتسع للجميع تحت سقف الوطن

قراءة في المشروع الإعلامي للأستاذ سعد البزاز

بحث توثيقي عن تجربة شخصية في صحيفة (الزمان) (2001-1998)

 

رائد فؤاد العبودي

 

 

لا يكتمل الاستقرار الحقيقي إلا حين نقف لحظة تأمل واعتراف، نستعيد وجوهًا عبرت حياتنا، ونتذكر الأيادي التي امتدت إلينا بالعون في مسيرتنا الطويلة، منذ الرحيل عن الوطن، حتى رسوّنا على ضفاف الطمأنينة.

فبعد أن هدأت العواصف وسكنت النفوس، وتوطدت أركان الحياة مادياً واجتماعياً، يصبح لزاما علينا ألا تنسينا راحة الاستقرار من كانوا لنا دعمًا وسندًا. أولئك الذين لم يبخلوا بموقف، أو كلمة، أو فرصة، ليعينونا في رحلتنا، حيث كان للوفاء إليهم منزلة لا تقل عن منزلة النجاح نفسه، بل لعله الوجه الأعمق له، والمعنى الأكثر سموا لاستقرارنا.

ومن بين أولئك الذين أسهموا في توجيه خطاي ودفعوني إلى الأمام، يبرز اسم الأستاذ الكبير الدكتور سعد البزاز، الذي كان له الأثر الأبرز في احتضاني إعلاميًا، حين حمل إليه الفنان الراحل فؤاد شاكر مقالي الأول، لأبدأ رحلتي كاتبًا في الزمان على مدى ثلاثة أعوام.  في هذا البحث التوثيقي، أستعيد تجربتي داخل أسرة الزمان في عمّان، وأقدم قراءة عن كثب لمؤسسة إعلامية لم تعرف الحدود أو الطوائف، بل سارت على نهج الصحافة الحرة، تحت راية الوطن الواحد عندما صنع الدكتور سعد البزاز تجربتة الإعلامية المتفردة، التي كسرت قيود الانتماءات الضيقة، وخلقت فضاء يجمع شتات الكلمة العراقية في زمن كانت الحقيقة فيه تائهة تبحث عن مأوى.

 

 

البزاز ودوره في احتضان المثقفين العراقيين

موقف وطني في زمن المحنة

في واحدة من أشد الفترات قتامة في تاريخ العراق، حيث تداخلت الأزمات وتكاثفت المحن، وجد المثقفون والصحفيون والفنانون العراقيون أنفسهم في قلب العاصفة، بين حصار دولي خانق فرضته العقوبات الاقتصادية، وحصار داخلي أكثر قسوة فرضه النظام الحاكم آنذاك.

و في ظل هذه الظروف، لم يكن الإبداع رفاهية، بل كان معاناة، ولم تكن الكلمة وسيلة للتعبير فقط، بل كانت معركة من أجل البقاء، و في خضم هذه المحنة، برز الدكتور سعد البزاز بوصفه شخصية استثنائية، لم تكتف بممارسة دورها الصحفي والإعلامي، بل تحولت إلى ملاذ وطني وإنساني للمبدعين العراقيين في المنفى.

كانت صحيفة الزمان، التي أسسها الدكتور البزاز أكثر من مجرد منبر إعلامي، فقد تحولت الزمان الى بيتًا آمناً جمع بين جنباته المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين، وكان البزاز يقدم لهم الدعم بكل أشكاله، ليس فقط على المستوى المهني، بل على المستوى الإنساني في أصعب الأوقات .

شهادات من قلب الحدث

لم يكن دعم الدكتور سعد البزاز للمثقفين العراقيين مجرد شعار، بل كان فعلاً ملموساً تجلّى في العديد من المواقف التي بقيت شاهدة على نبل مواقفه.

من بين هذه الشهادات الحية، ما حدث مع احد الصحفيين ، الذي تعرض لأزمة قاسية عندما ألقي القبض على ابنه أثناء محاولته اللحاق به إلى عمان. ففي ظل تعقيدات الوضع السياسي والأمني في العراق آنذاك، كان مصير الشاب مجهولاً، وكان إطلاق سراحه يتطلب مبلغاً مالياً كبيراً. وفي تلك اللحظة الحرجة، لم يتوان الدكتور سعد البزاز عن التدخل، متكفلاً بتوفير المبلغ المطلوب لإنقاذ الشاب، الذي وصل إلى والده سالمًا بفضل هذه المبادرة الإنسانية النبيلة.

لم يكن هذا الموقف استثناءً، بل تكرر مع العديد من الصحفيين والمثقفين العراقيين، الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين مطرقة الحاجة وسندان الغربة. بعضهم لم يكن يملك حتى المبلغ الذي فرضه النظام السابق كإتاوة على إصدار جواز السفر، فيما وصل آخرون إلى عمان مع عائلاتهم دون مورد أو مأوى، ليجدوا في البزاز السند والملاذ، مدفوعا بإيمان عميق بأن المثقف العراقي هو رصيد الوطن الحقيقي، ودعمه ليس منّة، بل واجب وطني وأخلاقي .

المكافآت الشهرية كرم يتجاوز الالتزام المهني

عندما يكون العطاء أكثر من مجرد واجب، يتحول إلى رسالة إنسانية تسمو فوق

الاعتبارات المهنية البحتة. وهذا ما جسده الدكتور سعد البزاز في تعامله مع الكتاب والصحفيين العراقيين الذين وجدوا أنفسهم في المنفى، يواجهون قسوة الحياة بعيدًا

عن الوطن.

ففي وقت كانت فيه الصحافة العراقية تمر بمرحلة صعبة، كان العديد من الصحفيين والمثقفين يعانون من تحديات كبيرة، ليس فقط على المستوى المادي، بل أيضًا على المستوى النفسي والإبداعي. كان المنفى، بكل ما يحمله من هموم الغربة، كفيلاً بأن يُصيب القلم بالجمود، ويضع العقل في حالة قلق مستمر تعيق الإبداع. ورغم ذلك، لم يكن البزاز يتعامل معهم بروح المقاولة الصحفية، حيث تدفع المستحقات بناءً على العمل المنجز فقط، بل كان يرى في دعمهم واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا. لم يكن منح المكافآت الشهرية مجرد التزام إداري أو مالي، بل كان أشبه برسالة دعم غير مشروطة، تواسي الكاتب والصحفي في لحظات ضعفه الإبداعي. و كان البزاز يدرك أن هؤلاء الصحفيين والمثقفين لم يكونوا يواجهون مجرد أزمة مادية، بل أزمة وجدانية مرتبطة بفقدان الوطن وتقلبات الأوضاع السياسية، وهو ما جعل الكثير منهم يعيش حالة من العجز عن الكتابة، رغم ما يحملونه من فكر وثقافة.

و في ظل هذه الظروف، جاءت مكافآته الشهرية لتكون أكثر من مجرد دخل مادي، بل كانت أشبه بيد تمتد لتعانقهم في غربتهم، تقول لهم إن هناك من يفهم معاناتهم، ويؤمن بأن الإبداع قد يمر بفترات خمول، لكنه لا يموت.

إن تجربة الدكتور سعد البزاز مع الصحفيين والكتاب العراقيين في تلك المرحلة تعكس رؤية إنسانية متقدمة لدور الإعلامي الحقيقي، فهو لم يكن مجرد ناشر أو مدير مؤسسة صحفية، بل كان راعيًا للفكر، ومؤمنًا بأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رسالة تحتاج إلى بيئة داعمة حتى تزدهر. ربما لم يكن هؤلاء الكتاب قادرين على العطاء في بعض الأشهر، لكن البزاز كان يعرف أن استمرارية دعمهم ستمنحهم الأمان النفسي والثقة ليعودوا إلى الكتابة بإبداع أقوى حين تحين اللحظة المناسبة. وبهذا، تجاوز كرمه حدود الالتزام المهني، ليصبح نموذجًا فريدًا للعطاء الذي يبني الصحافة، لا على الورق فقط، بل في نفوس من يصنعونها.

التكريم والاحتضان .. وداع يليق

 بالمبدعين

من الممارسات التي ترسخت في الزمان بفضل الدكتور سعد البزاز، تقليد تكريم الصحفيين والمثقفين العراقيين الذين يغادرون عمان إلى محطات جديدة في المهجر. لم يكن هذا التكريم مجرد إجراء رمزي، بل كان دعمًا فعليًا يتيح لهم السفر بكرامة، حيث كان يحرص على أن يغادروا وهم مجهّزون بكل ما يحتاجونه من مستلزمات السفر، إلى جانب دعم مالي يخفف عنهم مشقة البدايات الجديدة.

إن دعم الدكتور البزاز لم ينقطع عن كثيرين منهم حتى بعد وصولهم إلى بلدانهم الجديدة، حيث استمروا في تلقي المساندة المالية إلى أن استقرت أوضاعهم. ولم يقتصر كرمه على الكتاب والصحفيين وحدهم، بل امتد ليشمل عائلاتهم، حيث تكفل بتكاليف العلاج والعمليات الجراحية للعديد من الصحفيين وأفراد أسرهم، سواء في الأردن أو داخل العراق، في موقف يجسد التزامه العميق بقيم الوفاء والمسؤولية تجاه أسرته الصحفية الكبيرة.

إن ما قدمه الدكتور سعد البزاز في تلك المرحلة لم يكن مجرد دعم عابر، بل كان تأسيساً لرؤية جديدة للصحافة العراقية، قوامها الحرية والكرامة والاستقلالية. فهو لم يكن يرى الصحافة مجرد مهنة، بل رسالة تستحق أن يُضحّى من أجلها، وكان يؤمن بأن الكلمة الحرة لا يمكن أن تزدهر في بيئة يغيب عنها الأمان والدعم.

و بفضل قيادته، لم تكن الزمان مجرد صحيفة ، بل أصبحت بيتًا للمثقفين العراقيين في المنفى، وحاضنة حقيقية للإبداع، وأحد الأعمدة التي قامت عليها الصحافة العراقية بعد عام 2003.

ان سجل الصحافة العراقية، سيسطر هذه المواقف شاهدة على مرحلة لم يكن فيها الدعم ترفاً، بل كان ضرورة وجودية، وكان الدكتور البزاز أحد القلائل الذين فهموا أن الصحافة لا يمكن أن تنجو إلا إذا كان صُنّاعها محصنين من الخوف والحاجة.

(الزمان) الفضائية المكتوبة التي سبقت إعلام ما بعد 2003

في مرحلة كان العراق فيها محاصرًا من كل الجهات - اقتصادياً وسياسياً وثقافياً - نجحت صحيفة الزمان في كسر العزلة الإعلامية التي فرضت على الوطن، متجاوزة حدود الصحافة التقليدية لتصبح أشبه بـ»فضائية مكتوبة»، تسبق زمن الفضائيات العراقية التي لم تظهر إلا بعد عام 2003. ومع أن هذه الفضائيات نشأت فجأة في فضاء إعلامي متحول، فإنها لم تكن تحمل إرثاً صحفياً يؤهلها لنقل الحدث بمصداقية ورؤية عميقة، على عكس الزمان التي قدمت نموذجاً حداثياً في الصحافة المكتوبة، بأسلوب تحريري متطور، وسعة في التغطية، وشمولية في طرح القضايا المحلية والدولية، جعلتها في واقع الأمر تؤسس لمرحلة الإعلام الفضائي الذي جاء فيما بعد. كانت الزمان بمثابة تجربة متقدمة في الصحافة العراقية، أوجدت فضاءً حراً للحوار والرأي، وقدمت للقارئ مادة إعلامية تتجاوز النمط التقليدي، لتلامس روح العصر من حيث الشكل والمضمون. ومن خلال توازنها التحريري، وانفتاحها على مختلف التيارات الفكرية والسياسية، وحرصها على تقديم محتوى رصين يستند إلى المعايير المهنية، أصبحت الجسر الذي مهد الطريق أمام ولادة الإعلام الفضائي العراقي، حيث يمكن القول إنها وضعت الأسس الفكرية والمهنية لما بات لاحقًا يُعرف بالإعلام العراقي بعد 2003، سواء من حيث نمط التغطية الإخبارية، أو طبيعة الخطاب الإعلامي، أو حتى في مفهوم الصحافة العابرة للحدود.

 

رؤية البزاز ..

الإعلام في خدمة الوطن

لم تكن صحيفة الزمان مجرد منبر صحفي عابر بل كانت مشروعاً إعلاميًا متكاملاً رسم ملامحه الدكتور سعد البزاز، ليكون صوتاً حقيقياً للعراق في الداخل والخارج. فمنذ تأسيسها، حملت الصحيفة رسالة وطنية واضحة، تتجاوز مجرد نقل الأخبار إلى تقديم محتوى يعكس هموم العراقيين وتطلعاتهم، بعيدًا عن الأجندات السياسية الضيقة.

في زمن كانت فيه وسائل الإعلام العراقية مكبّلة بقيود السلطة أو غارقة في الفوضى

التي أعقبت الاحتلال الأمريكي، تميّزت الزمان بأنها لم تكن بوقاً لأي طرف، بل كانت ساحة مفتوحة للرأي الحر، تعكس نبض الشارع، وتنقل الحقيقة دون تزييف أو تحريف . وتحت شعار ، صحافة تستند إلى الميدان لا إلى الوكالات و على عكس العديد من الصحف التي اكتفت بنقل الأخبار عبر الوكالات الدولية، أدرك الدكتور سعد البزاز مبكرًا أن الصحافة الحقيقية لا تُصنع خلف المكاتب، بل في الميدان، بين الناس. لذلك، حرص على بناء شبكة واسعة من المراسلين والصحفيين، ليس فقط في العراق، ولكن أيضًا في أماكن وجود الجاليات العراقية، خصوصًا في عمان، التي أصبحت في تلك الفترة محطة عبور رئيسية للعراقيين الخارجين من وطنهم لأسباب مختلفة.

كان القادمون من العراق يحملون معهم قصصًا لم تصل إلى الإعلام الرسمي، وأخبارًا طازجة من قلب الحدث، مما جعل الزمان تتحول إلى منجم للمعلومات الحصرية، سبقت بها حتى كبرى وسائل الإعلام العالمية.

كانت عمان تمثل ملتقى العراقيين من مختلف الخلفيات ومن هناك، استطاعت الصحيفة ان تبني جسراً بين الداخل والخارج وان تقوم بدور استثنائي في إيصال صورة دقيقة لما يحدث داخل العراق.

و لم يقتصر الأمر على نشر الأخبار، بل امتد إلى خلق فضاء للحوار بين العراقيين في الداخل والخارج، مما جعلها منصةً فريدة لنقل نبض الشارع العراقي بمصداقية وشفافية . كانت الزمان تمثل صلة الوصل بين الصحفيين في الميدان والجالية العراقية، مما ساعدها على تقديم تغطية متكاملة، لم تكن متاحة لأي وسيلة إعلامية أخرى في ذلك الوقت.

ومن خلال تبني الدكتور سعد البزاز لرؤية وطنية لا تتلون بالسياسة ، تميزت صحيفة الزمان عن غيرها من حيث أنها لم تسع إلى استقطاب جمهور معين أو الترويج لفكر سياسي محدد، بل كانت فضاءً حراً يجمع كل التيارات الفكرية والسياسية والثقافية، في إطار وطني بعيد عن التمايزات الطائفية أو العرقية.

كان نهج الدكتور البزاز واضحاً: الإعلام يجب أن يكون في خدمة الوطن، لا في خدمة السلطة أو المعارضة أو أي جهة أخرى. لذلك، نجحت الصحيفة في استقطاب نخبة من أبرز الكتاب والمثقفين العراقيين، الذين وجدوا فيها مساحة للتعبير عن رؤاهم، بعيدًا عن التوجهات الإيديولوجية الضيقة.

لم تكن تجربة الزمان مجرد تجربة صحفية ناجحة، بل كانت نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه الإعلام الحر، حين يكون ملتزماً بمسؤوليته الوطنية دون أن يتحول إلى أداة بيد السلطة أو القوى المتصارعة حاليا .

وبعد سنوات من التحولات السياسية والإعلامية في العراق، تبقى رؤية سعد البزاز علامة فارقة في تاريخ الصحافة العراقية، حيث أثبتت أن الإعلام يستطيع أن يكون صوتاً للوطن، لا مجرد صدى لأصحاب النفوذ. و بهذا المعنى، لم تكن الزمان مجرد صحيفة، بل كانت مدرسة إعلامية متكاملة، وضعت أسساً جديدة للصحافة العراقية، وجعلت من الكلمة الحرة جناحاً يحلق فوق الانقسامات، ليظل الإعلام في خدمة الوطن أولاً وأخيراً.

 

أقسام (الزمان)

تنوع يغطي احتياجات القارئ العراقي والعربي

لم تكن صحيفة الزمان مجرد صحيفة يومية تلاحق الأخبار السياسية، بل كانت مشروعاً صحفياً متكاملاً يدرك أن القارئ، سواء كان عراقياً أو عربياً، يبحث عن محتوى يلامس اهتماماته في مختلف مناحي الحياة. فمع بداية انطلاقتها، تبنّت الزمان رؤية عصرية لمفهوم الصحافة، تقوم على التنوع والشمولية، ففتحت صفحاتها لمجالات عدة، تتجاوز السياسة لتغطي الثقافة والفن والرياضة والمجتمع، في توليفة صحفية نادرة في الصحافة العراقية آنذاك. هذا التنوع لم يكن مجرد تنسيق شكلي، بل كان انعكاساً لوعي حقيقي بأهمية بناء صحيفة متكاملة، تستطيع أن تكون مرآة حقيقية لحياة الناس، ونافذة تطل منها شرائح المجتمع كافة.

و في زمن كانت فيه الثقافة العراقية تعاني من التهميش، جاءت الزمان لتعيد إلى المشهد الثقافي ألقه، عبر ملف ثقافي موسّع لم يكن مجرد زاوية للخبر الثقافي العابر، بل منصة للنقد والتحليل والإبداع.

و لم تكن هذه الصفحات مخصصةً لمتابعة الإصدارات الأدبية فحسب، بل احتضنت دراسات نقدية عميقة، وحوارات مع رموز الفكر والثقافة، مما جعلها أشبه بمنتدى فكري مفتوح. على صفحاتها، التقى الأدباء والمثقفون من مختلف التيارات الفكرية، في فضاء يقدّم الثقافة بوصفها مكونا أساسيًا في حياة المجتمع، وليس ترفا هامشياً. وفي مجال الشباب والرياضة ، أدركت الزمان مبكرًا أن الرياضة ليست مجرد ألعاب تقام داخل الملاعب، بل هي شغفُ يجمع الناس، ولغة توحد العراقيين والعرب ، فخصصت صفحتين رياضيتين مميزتين، أشرف عليهما نخبة من الصحفيين الرياضيين المخضرمين، إلى جانب نجوم الرياضة الذين أغنوا المحتوى بتحليلاتهم وخبراتهم.

و لم تكن التغطية الرياضية تقليدية، بل امتازت بلمسة احترافية جعلتها مرجعاً لعشاق الرياضة، ليس فقط لمتابعة أخبار الفرق والمباريات، بل لفهم الأبعاد الفنية والاستراتيجية للعبة.

اما بخصوص الفن والتراث ، فلم تقتصر رؤية الزمان على مجاراة الأخبار الفنية السريعة، بل قدّمت صفحة متخصصة في السينما والمسرح والفن التشكيلي والتراث، مما جعلها سجلاً موثقاً للحركة الفنية العراقية والعربية ، فمن خلال حواراتها مع الفنانين، ومتابعتها للمهرجانات الفنية وإضاءتها على التجارب المسرحية والسينمائية، استطاعت أن تحافظ على صلة الجمهور بالحياة الثقافية والفنية، حتى في أحلك الظروف. كما خصصت مساحة للتراث العراقي، إدراكًا منها أن الثقافة ليست فقط إبداعاً معاصراً، بل امتداد لجذور حضارية يجب صونها وتعريف الأجيال الجديدة بها.

وكان للمجتمع والترفيه في صفحات الزمان حيزاً مناسباً ، فالزمان لم تغفل عن القارئ العادي، الذي يبحث في الصحافة عن قصته الشخصية، عن همومه اليومية وتفاصيل حياته. لذلك، جاءت صفحة المجتمع والترفيه مساحة تنبض بالحياة، تعنى بقضايا الناس بأسلوب إنساني جذاب، بعيداً عن الجفاف الصحفي التقليدي. فسواء من خلال المقالات الاجتماعية، أو الزوايا الترفيهية، أو متابعة الظواهر المجتمعية، استطاعت هذه الصفحة أن تكون أقرب ما يكون إلى نبض الشارع، تعكس أصوات من لا صوت لهم، وتقدم محتوىً يتفاعل مع القارئ العادي كما يتفاعل مع المثقف.

وعند الحديث عن الزمان وصفحاتها تبرز قصة الصفحة الأخيرة التي مثلت عالماً من الابتكار الصحفي ، حيث كانت الصفحة الأخيرة في الزمان بمثابة المساحة التي تتنافس فيها الإبداعات، فقد اجتمع فيها كتاب بارعون، كلُّ بأسلوبه وبصمته الخاصة، ليجعلوا منها مساحة مختلفة عن النمط التقليدي للصحف. كما احتضنت هذه الصفحة العمود اليومي المميز للأستاذ فاتح عبد السلام، الذي تحوّل إلى بصمة خاصة في هوية الصحيفة، حيث استطاع بأسلوبه الفريد أن يقدّم قراءة تحليلية للأحداث بأسلوب يجمع بين العمق والسلاسة، مما جعله أحد الأعمدة الصحفية الأكثر متابعة وتأثيراً . ان تنوع الزمان لم يكن مجرد إضافة شكلية، بل كان فلسفة تحريرية قائمة على أن الصحيفة يجب ، أن تكون انعكاساً حقيقياً لحياة القرّاء. فمن السياسة إلى الثقافة، ومن الرياضة إلى الفن، ومن المجتمع إلى الفكر، استطاعت أن تخلق نموذجا متكاملاً للصحافة التي لا تكتفي بنقل الحدث، بل تصنعه، ولا تقتصر على فئة معينة، بل تخاطب الجميع بدون استثناء.

واليوم، بعد سنوات من انطلاقتها، تبقى الزمان شاهدة على تجربة إعلامية استثنائية، استطاعت أن تضع معايير جديدة للصحافة العراقية والعربية صحافة تتسع للجميع،

وتنبض بالحياة، وتظل وفيّةً لرسالتها الأولى: أن تكون صوتاً للوطن وأهله.

إرث إعلامي سبق عصره

تُعَدُّ صحيفة الزمان إرثاً إعلامياً عريقاً في تاريخ الصحافة العراقية، حيث تميزت بريادتها وتفرّدها في الساحة الإعلامية قبل وبعد عام 2003. فقد أسست الزمان لنهج إعلامي حديث، متجاوزةً في مهنيتها ووطنيتها العديد من الوسائل الإعلامية التي ظهرت مع الاحتلال الأمريكي.

اتسمت الصحيفة بتغطيتها الشاملة لمختلف التيارات الفكرية والسياسية والثقافية، مبتعدةً عن التمييز الديني والعرقي والطائفي، مما جعلها منبراً يجمع كافة أطياف المجتمع العراقي ، كما لعبت الزمان دوراً محورياً في إحداث التغيير السياسي المنتظر في العراق، حيث ساهمت في إنهاء حقبة الدكتاتورية من خلال تسليط الضوء على القضايا الوطنية والمطالب الشعبية. ورغم التحديات والضغوط، حافظت الصحيفة على استقلاليتها ومصداقيتها، مما أكسبها احترام وتقدير القرّاء.

وبعد عام 2003، ورغم الفوضى الإعلامية وظهور العديد من الصحف والقنوات، حافظت الزمان على استقلاليتها ومهنيتها، مما جعلها نموذجاً يُحتذى به في الصحافة العراقية.

في ظل التحديات التي واجهها العراق بعد الاحتلال الامريكي، برزت صحيفة الزمان كصوت وطني مسؤول، يرفض الانزلاق في مستنقع الطائفية والتفرقة التي حاولت بعض الجهات فرضها على المجتمع ، مستمرةً في تقديم محتوى يعزز الوحدة الوطنية، ويشجع على الحوار البناء بين مختلف المكونات العراقية، مما رسخ مكانتها كمنبر إعلامي يسعى لبناء عراق موحد ومستقر.

مدرسة البزاز:

حين أصبح للكلمة جناحان

((تجربة شخصية))

حين وطأت قدماي عمّان ، كنت مجرد كاتب ناشئ ، لم تلامس أسطر قلمي آفاق ان أكون معروفاً على الاقل ، ولا تزال مسيرتي الصحافية في بداية خطوتها الاولى .

كنت احاول ان أجد لي موطئ قدم في هذا العالم الصحفي من خلال التعرف على الوجوه التي كنت أسمع عنها من والدي، الصحفي فؤاد العبودي ، دون أن أتوقع أن تكون بداية تواصلي مع صحيفة الزمان و الأستاذ الكبير سعد البزاز لتكون نقطة تحول في مساري المهني والشخصي .

كانت البداية عندما كتبت أول مقال لي، حول مأساة تعرضت لها قرية بوسنية من هجوم صربي مروع، ورحت أربط بين تلك الحادثة وما حدث في قرية آل جويبر في الناصرية، من قمع وقتل على يد النظام السابق . لم أكن أتوقع أن يلقى المقال أي اهتمام، إلا أن ما حدث بعدها جعلني أرى وجهاً آخر للإعلام، وجهاً لا يعترف بالمصادفة أو بالعرضية. فعندما وصل المقال إلى مكتب الصحيفة في لندن، لم يمر مرور الكرام، بل تلقيت اتصالاً من مكتب الزمان في عمّان بناءً على طلب مباشر من لندن ، للاستفسار عن مصادر المقال قبل نشره.

لم يكن هذا مجرد تدقيق صحفي، بل كان دليلاً على نهج إعلامي راسخ، وعلى إصرار لا يتهاون في السعي وراء الدقة والموضوعية، وعلى روح منفتحة لا تميز بين شمال وجنوب ووسط ، بل ترى العراق بأسره كيانا واحدًا . أما التجربة الثانية، فقد كانت أكثر تأثيراً على صعيدي الشخصي ، ففي مرحلة لاحقة، تعرضت لمضايقات نفسية من بعض الصحفيين العراقيين المخضرمين الذين استاؤوا من حصولي على مكافأة مالية تفوق ما كانوا يتقاضونه. شعرت بالإحباط، وكتبت رسالة شكوى للأستاذ البزاز تحمل بين سطورها مشاعر الألم و جاء رده سريعا ، في رسالة مكتوبة بخط يده، كانت كلماتها مليئة بالتشجيع والتعزيز، تظهر دعمه لي وتشد من عزيمتي. ولم يتوقف الدكترر سعد البزاز عند ذلك، بل أرفق مع الرسالة مكافأة مالية، كما لو أنه أراد أن يطمئنني بأنني لست وحدي في هذا المسار، وأن هناك من يقدّر الجهد والإبداع، بغض النظر عن أسبقية الأسماء أو المكانة.

ان تلك اللحظات خلّدت في داخلي شعوراً عميقا من الوفاء لهذا الرجل، الذي لم يكن مجرد رئيس تحرير صحيفة وصاحب مؤسسة اعلامية ، بل كان أستاذًا وداعمًا لجيل كامل من المثقفين العراقيين في عمّان، في وقت كان يحمل بين طياته الكثير من التحديات والمشاق العظام.

واليوم، و بعدما استقر بنا المقام في الاغتراب وبدت حياتنا أفضل من ذي قبل في كل المجالات ، أكتب هذه السطور بعينين مليئتين بالامتنان، شهادة مني على إخلاص الأستاذ سعد البزاز لوطنه وشعبه، ووفاءً لمن كان له الفضل في توجيه مسار حياتي الصحفية ، انا وكل جيل الاغتراب الصحفي في عمان .


مشاهدات 74
أضيف 2025/04/07 - 12:59 AM
آخر تحديث 2025/04/07 - 6:31 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 789 الشهر 5773 الكلي 10586420
الوقت الآن
الإثنين 2025/4/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير